وفي النظام الإداري وجدت هذه الظاهرة بأقسى صورها في البداية، إذ الحقيقة أن النظم الوضعية تحتقر الفرد. وتضحك عليه وتخدعه للحصول على النفوذ والسلطان بواسطة الكوادر والأغلبيات العددية.
وفي البداية قيل: إن أساس النظام الإداري، والمبرر الذي يسوغ وجوده - كقانون استثنائي يعطي الإدارة امتيازات القهر والجبر على الأفراد - هو احتياج الإدارة لهذه الامتيازات ذاتها. فجعلت الامتيازات واعتبارات السلطة والحاجة إلى إعلاء الصالح العام على الصالح الخاص أساسا لذلك القانون.
وهذا الأساس كان شديد التجاهل والقسوة على الأفراد فكان يبرر الوسائل الإدارية مهما كانت شدتها، كالشروط غير المألوفة في العقود الإدارية والتنفيذ المباشر بالطريق الإداري بصورة متوسع فيها.
وكان من الطبيعي أن يتعدل هذا الأساس نحو احترام الناس والشعور بوجودهم.
فقيل بأن الأساس الذي يبرر وجود قانون إداري مخصوص (يتصف بصفات الشدة السابق ذكرها) هو ضرورة تسيير المرافق العامة. فإن هذه الضرورة هي التي قالوا: إنها تبرر قيام قانون إداري إلى جانب القانونين المدني والتجاري اللذين ينظمان علاقات الأفراد. وكان ذلك في منتصف القرن الميلادي الماضي.
وكان اتخاذ مبدأ " تسيير المرافق العامة " أساسا للقانون الإداري أكثر شعورا بالجمهور واحتياجاتهم فلم يقتصر هذا القانون على تنظيم الامتيازات الإدارية، بل أبصر بنواح من مصالح الشعب، وذلك على أساس أن المرافق العامة هي خدمات تؤدى إلى المنتفعين بها، وأن لهم حقوقا في الطعن على ما يخل بهذا الانتفاع، وأنه يجب أن تراعى أوضاعهم كهيئة لها كيان خاص في مقابل هيئة الإدارة في كيانها. .
ونشأت في هذه النظم الوضعية كثير من النظريات والوسائل التي كانت تعتبر تقدمية في وقتها. وكانت موضع فخرهم واعتزازهم الشديد.
ثم تطور الزمان مرة أخرى. فقد وجدوا أن انفصال السلطة عن الشعب لهذه الدرجة التي قام عليها نظامهم من قبل، يجعل صراعا حقيقيا بين العنصرين، وهما في الحقيقة أمة واحدة.
فإن السلطة تسعى لمصلحة المجموع. والشعب يسعى لمصلحة المجموع. وأنهما يتلاقيان في هدفهما وغرضهما. وأن الحقيقة - كما تكشفت لهم - هي أن الحكومة يجب أن تعمل وفقا " للروح الشعبية ".
وإنه لا فائدة من الكيان الفردي إلا إذا انفعل وتحمس بهذه الروح العامة - أي الروح الشعبية - التي يجب أن تعمر كيان الأمة وتجعلها متحمسة ومنفعلة بالعقيدة العامة والإيمان العام الذي يرتبط به الجميع.