للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إن هؤلاء يتسنمون مراكز القيادة في الأمة بهذه العقيدة ويضعون نصب أعينهم الانسلاخ من شريعة الإسلام، أو من الدين كله، ويعتبرون أن إقامة الحدود وحشية لا تلائم عصر المدنية، ولا يجرءون على إعلان ردتهم وكفرهم حتى لا تنقم عليهم جماهير الشعوب المسلمة التي يحكمونها، وهم في حاجة إلى أن يتملقوها باسم الإسلام.

وحين يعاتبهم أحد يحتجون بأنهم ما أرادوا تحكيم القوانين الوضعية إلا لمصلحة الأمة، حرصا على تقدمها وازدهارها، ويبلغ بهم النفاق مبلغه حيث يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بصنيعهم هذا إلا الإحسان وذلك هو ما حكاه القرآن الكريم عن المنافقين؛ لأن النفاق هو النفاق في كل عصر {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (١) {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (٢) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (٣)

إنه لا مجال للعدول عن القرآن الكريم إلى كتاب آخر فضلا عن نظام للبشر، وإلا كان الامتراء {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (٤)

خشية الناس والطمع في أعراض الدنيا

يتعارض الحكم بما أنزل الله مع شهوات المستبدين ورغبات الظالمين، وكثيرا ما يستولي هؤلاء على أزمة الحكم، ويقبضون بأيديهم على كل مرفق من المرافق للاستبداد بالأمور كلها، ويضربون بيد من حديد على الرأي الحر والفكر المستنير ما دام يتعارض مع أهوائهم ومصالحهم. ويضعف أهل الحق عن المجاهرة به والصمود في سبيله ويخشون بأس الظالمين، فيستكينون لهم وينصاعون لرغباتهم ويكتمون شريعة الله التي استحفظوا عليها، وقد يبلغ الضعف بهم مبلغه طمعا في عرض من أعراض الحياة الدنيا فيتملقون الطغيان، ويمالئون ذوي الشهوات، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويصدرون الفتاوى التي تبرر خروج الحكام عن شرعة الله، وتلتمس لهم المعاذير، ولذا نهى الله علماء اليهود الذين تهاونوا في تحكيم التوراة تحت تأثير هذه الدوافع: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (٥)

وفي ظل ذلك الجو الخانق يكثر سواد المضللين، وتختل موازين الحق، وتفسد قيم الحياة، وتقرير الحق والباطل، والهدى والضلال، لا يرجع إلى موازين الناس وأهوائهم، أو اصطلاحات المجتمع وقيمه،


(١) سورة النساء الآية ٦١
(٢) سورة النساء الآية ٦٢
(٣) سورة النساء الآية ٦٣
(٤) سورة الأنعام الآية ١١٤
(٥) سورة المائدة الآية ٤٤