للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: (١)

(فصل) ومنها كمال صحبة الصديق له وقصده التقرب إليه والتحبب بكل ما يمكنه؛ ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي سره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، فإنه يجوز للرجل أن يؤثر أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب. لا يصح، وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك، فلم تكره له السؤال ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكن يكره له السؤال ولا لذلك البذل ونظائره، ومن تأمل سيرة الصحابة وجدهم غير كارهين لذلك ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها تفريجا لأخيه المسلم وتعظيما لقدره وإجابة له إلى ما سأله وترفيها له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحا على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قربة وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بد تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء فآثر به على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزا، ولم يقل أنه قاتل لنفسه ولا أنه فعل محرما، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (٢) وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام


(١) ص ٢٠٠ من جـ ٢ من زاد المعاد.
(٢) سورة الحشر الآية ٩