للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لقد تقدمت الدراسات النفسية، والدراسات الاجتماعية، والدراسات القانونية لتحد من تفاقم الشر وانتشار الجريمة ولكنها باءت بالفشل، ففي طبيعة البشر أن يتمرد على البشر إنه يشعر إزاء سائر الناس أنه إنسان وأنهم أناس وأن هذا الاشتراك في البشرية يقتضي أن يكون الجميع سواء في الحقوق كلها، فعلام يدين بالولاء والطاعة لقانون من وضع البشر؟

أيدين له فرارا من جزاء مخالفة بحرمان دنيوي؟ أو عقوبة دنيوية؟ إذا فالخطب غير عسير، ففي استطاعته أن ينقض عرى هذا القانون عروة عروة، ويهدم بناءه لبنة لبنة في غفلة من حراسة القانون ورجال الأمن ولا يمتلك القانون عقوبة في الدار الآخرة، ولا يعلم أسرار الناس وبواطنهم.

أما التشريع السماوي فإنه يستمد سلطته من الله الذي خلق الخلق، وهو يعلم السر وأخفى {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (١) وهذا يبعث في نفس المسلم مراقبة الله والحفاظ على شريعته في الغيب والشهادة، بل يغرس فيها الإخلاص الذي يرعى حرمات الله عن صدق، ظاهرا وباطنا، فطاعة التشريع السماوي من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يكفي في تحقيقها السلوك الظاهري في مرأى الناس، بل لا بد فيها من خشوع القلب، واطمئنان النفس، والانقياد لها بين حنايا الضلوع، والإفلات من عقوبة الدنيا بالتستر والمخاتلة لا يغني فتيلا عن عقوبة الحياة الآخرة، ولذا قرن الله في أحكام الشريعة الجزاء الأخروي بالجزاء الدنيوي، فإن أفلت المرء من هذا لم يفلت من ذاك. يقول تعالى في القتل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (٢) ويقول في المحاربة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (٣)

وفي القذف: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (٤)

وبهذا يتربى الضمير المؤمن الحي الذي يسهر على رعاية حرمات الله، فإن القضاء لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.

سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصومه بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: «أيها الناس إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها (٥)».


(١) سورة غافر الآية ١٩
(٢) سورة النساء الآية ٩٣
(٣) سورة المائدة الآية ٣٣
(٤) سورة النور الآية ٢٣
(٥) صحيح البخاري المظالم والغصب (٢٤٥٨)، صحيح مسلم الأقضية (١٧١٣)، سنن النسائي آداب القضاة (٥٤٠١)، سنن أبو داود الأقضية (٣٥٨٣)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣١٧)، موطأ مالك الأقضية (١٤٢٤).