وإخفاء ما فيه إقرار حق أو إيجاب عقوبة، ففعلوا بكتاب الله الإنجيل كما فعل اليهود بكتاب الله التوراة، فانحرفت الديانة المسيحية عن الاتجاه السليم، وانطمست معالمها الأصيلة وأصبحت ديانة لا تعرف مقتضياتها إلا من الأحبار والرهبان، يحلون ما شاءوا، ويحرمون ما شاءوا، باسم الإله، وباسم كتاب الله، وقد انتشرت الديانة المسيحية في بعض الجهات والجزيرة العربية كاليمن ونجران وغيرها. أما الحجاز وقلب الجزيرة العربية فقد كان فيها من تدين بالمسيحية إلا أن عبد الشيطان ووليه عمرو بن لحي استجاب لداعي الشيطان وخواطره، فنقل مجموعة من الأصنام، ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق، ونسرا، وغيرها إلى مكة المكرمة وغيرها، ثم تكاثرت الأصنام في مكة وحول الكعبة حتى بلغ عددها ثلاثمائة وستين صنما، فعكف الناس عليها عبادة وتعظيما وأملا في شفاعتها على حد زعمهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}(١)
ولكن الله بفضله ورحمته وشمول رعايته خلقه قضى بإنقاذ عباده من مكايد الشيطان ومخططاته، فأرسل رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل، وبعد أن تحولت الديانات السماوية بفعل الأحبار والرهبان إلى ديانات ممسوخة، يمجها العقل، وتأباها الفطر السليمة، سواء ما كان منها متعلقا بعلاقة العبد بربه، أو ما كان متعلقا بعلاقة العباد مع بعضهم، فجاء - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وسراجا منيرا، ورسولا عاما للثقلين الجن والإنس، مؤيدا بكتاب كريم من رب رحيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فيه العظة والعبرة، وفيه الحكمة والموعظة، وفيه الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وفيه التشريع الضامن لأحسن علاقة بين العبد وبين ربه، وبين العباد فيما بينهم ضمن لهم الحفاظ على كامل الحقوق الأساسية - الدين والنفس والعقل والمال والعرض - وعلى كامل ما تفرع عنها مما يعود عليه بالكمال ورفع الحرج.