للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الطائفيات، وانصرفوا لدراسة الإنسان وعلاقته بالطبيعة، متجنبين بقدر الإمكان كل الأبحاث، الميتافيزيقية التي لا يمكن للإنسان إدراكها إلا عن طريق النقل، واتجهوا في فلسفتهم الاجتماعية نحو مجتمع واقعي، يقوم على التعاون، ويتأثر بقوانين الكون، عوامل الاقتصاد، ويتطور بحسب البداوة، والغزو، أو الحضارة والاتجار. ومقدمة ابن خلدون خير مثال لذلك. على أن الاتجاه الاجتماعي كان بارزا عند الفلاسفة والفقهاء المغاربة فقط بل حتى عند متصوفة المغرب أمثال ابن العباس السبتي، وابن محمد صالح من الذين بحثوا في تجربتهم الروحية، سبيل خدمة المجتمع، والتعاون على سد حاجاته، وبذلك قدر المغاربة مهمة للعالم الديني، على أنها ليست في مجرد البحث والتدريس ولكن في نقل معرفته، وبذل جهوده لخدمة الإنسان، وتحسين حالته المادية والخلقية، ولكن المسلمين لم يسيروا على وتيرة واحدة دائما.

وليست " القرويين " وحدها هي التي قامت بهذا الدور العلمي الثقافي الحضاري، فجامع الأزهر الذي تم بناؤه سنة ٣٦١ - ٩٧٢ م كان مركزا لنشر المعرفة ومقصدا للطلبة من جميع الآفاق، ويحدثنا التاريخ أن أول درس ألقي فيه كان أواخر عهد المعز لدين الله (٣٦٥ - ٩٧٥) حيث جلس قاضي القضاة أبو الحسن علي بن النعمان يدرس فيه مختصر أبيه في فقه الشيعة في جمع حافل من العلماء والكبراء (١)، وفي ذلك الوقت بالذات برزت دار الحكمة التي أنشأها الخليفة الحاكم، وقد أمضى المقدسي (٢) في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشر مجالس من مجالس العلم، وكان جامع المنصور ببغداد، وهو أقدم مسجد جامع بها، أشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية، ويحكى أن الخطيب البغدادي لما حج شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، سأل الله -عز وجل- ثلاث حاجات، أخذا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ماء زمزم لما شرب له (٣)»، فالحاجة الأولى: أن يحدث بتاريخ بغداد، والثانية أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة: أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي (٤). وقد جلس إبراهيم بن محمد نفطويه المتوفى عام ٣٢٣ هـ ٩٣٥ م وكان من أكبر العلماء بمذهب داود الأصبهاني إلى اسطوانة بجامع المنصور خمسين سنة لم يتغير محله منها (٥)، وكان أبو حامد أحمد بن محمد الإسفراييني المتوفى عام (٤٠٦ هـ - ١٠١٥ م) إمام أصحاب الشافعي يدرس بمسجد عبد الله بن المبارك ببغداد، وكان يحضر مجلسه من الفقهاء والعلماء ما بين ٣٠٠ و ٧٠٠ فقيه (٦)، وكان أبو الطيب الصعلوكي مفتي نيسابور مركز علماء خراسان، يحضر مجلسه أكثر من خمسمائة طالب، ونفس الشيء بالنسبة لمدينة (كشغر)


(١) مساجد مصر وأولياؤها الصالحون.
(٢) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري.
(٣) سنن ابن ماجه المناسك (٣٠٦٢)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٣٥٧).
(٤) الإرشاد لياقوت.
(٥) الإرشاد.
(٦) طبقات السبكي.