للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حيث يحضر دروس مسجدها أكثر من خمسمائة طالب، ويروي التاريخ أن الصاحب بن عباد لما عزم على إملاء الحديث وهو وزير خرج يوما متطلسا متحنكا بزي أهل العلم، فقال: قد علمتم، قدمي في العلم، فأقروا له بذلك، وأنا متلبس بهذا الأمر، وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ومع هذا لا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من ذنب أذنبته، واتخذ لنفسه بيتا أسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته ثم خرج وقعد للإملاء، وحضر الخلق الكثير وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستة، كل يبلغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار (١).

وفي سنة ٣٤٦ هـ ٩٥٧ م توفي أبو العباس الأصم، وكان من أكبر علماء خراسان ومحدثيهم، وقد ظهر به الصمم وهو ابن ثلاثين سنة وكان إذا ذهب إلى المسجد للتحديث، وجد السكة قد امتلأت بالناس، وكانوا يقومون له ويحملونه على عواتقهم إلى مسجده، وكان لا يأخذ شيئا على التحديث وإنما كان يورق ويأكل من كسب يده (٢).

لقد كانت المساجد مركزا للتعليم والتثقيف في جميع ميادين المعرفة، كما كانت مجالس للوعظ والإرشاد والتوجيه، وقد ذكر الجاحظ في البيان والتبيين أن جعفر بن الحسن أول من اتخذ حلقة في مسجد البصرة لإقراء القرآن وللقصص، ويقول المرحوم العلامة الظاهر ابن عاشور: " وأحسب أنه ما نشأت فكرة وضع المدارس لدراسة العلوم في الإسلام، إلا من أثر امتزاج التمدن في عصر الدولة الإسلامية العباسية بين مدينة الإسلام ومدينة اليونان "، ثم يقول: وما ظهرت المدارس في الإسلام لمزاولة العلوم إلا في بغداد، لما وضع أبو جعفر المنصور حلقة الطب التي فوض أمرها إلى (فرات بن سحتاثا) الفارس الطبيب في حدود سنة ١٤٠ هـ، وما كانت تلك الحلقة معهد تعليم للعلم، ولكنها كانت مجمعا لعلماء الطب ليتذاكروا علمهم وتجاربهم (٣).

ولقد بقي أهل السنة بمصر يدرسون العلم بجامع الفسطاط إلى أن بنى صلاح الدين مدرستين: الأولى للمالكية سنة ٥٦٦ هـ، والثانية للشافعية، وبنى الملك الكامل بالقاهرة دار الحديث المعروفة بالكاكلية سنة ٦٢٢ هـ وجعلها للمذاهب الأربعة، وأقام الملك العادل في دمشق المدرسة العادلية والملك الظاهر في دمشق أيضا المدرسة الظاهرية (٤) وأشير بالمناسبة إلى أن مركز مصر العلمي ابتداء منذ الفتح الإسلامي سنة ١٦ هـ حيث سكن أرض الكنانة جمهور من الصحابة، مثل عمرو بن العاص، وابنه عبد الله، وقيس بن عبادة وعبيد الله بن محمد


(١) الإرشاد لياقوت.
(٢) الحضارة الإسلامية.
(٣) ص ٥٦ من " أليس الصبح بقريب ".
(٤) ص ٥٦ أليس الصبح بقريب.