لوضع حد للاختلاف، هو التفاوض بين الأطراف المختلفة وليس أن يقتل الأخ أخاه.
ولا مجال أبدا، لزعم قسم من المؤرخين، أن أبا موسى كان مغفلا لا علم له بالسياسة، لذلك غدر به عمرو بن العاص، فقد كانت القضية مكشوفة للغاية وليست معقدة، كما أنه كان يعرف عمرو بن العاص ويعرف دهاءه، ولم يكن يجهل مكانه ومكانته، ولكن أبا موسى كان يريد الله بكل أعماله، وكان يرى أن إيقاف الاقتتال بين المسلمين ووضع حد لنزيف دماء المسلمين بأيديهم لا بأيدي أعدائهم، أهم بكثير من مصير رجلين من المسلمين، هما: علي ومعاوية. لقد كان يعتقد أن مصير الإسلام والمسلمين، أهم بكثير من مصير شخصين، وأن المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، أهم بكثير من المصلحة الشخصية، ولو كان غير عمرو بن العاص معه في التحكيم، لما تبدل موقفه، فهذا هو موقفه الذي لم يفرضه عليه عمرو ولا غيره، بل فرضه عليه إيمانه الراسخ بتعاليم الإسلام، وحرصه الشديد على اتباع التعاليم نصا وروحا، حتى ولو لحق الضرر بمصالحه الشخصية، فخسر منصبه، وخسر مكانته، وخسر حتى متاعه الذي نهبه الناس (١)، ولكنه ربح نفسه، ولا يمكن أن تعتبر الخسارة المادية إلى جانب الخسارة المعنوية عند أصحاب المبادئ والمثل العليا شيئا مذكورا. إن دراسة حياة هذا الصحابي الجليل بإمعان، تؤكد أنه لم يكن مغفلا وتنفي عنه الغفلة نفيا قاطعا، وإلا لما ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، ولولا موقفه من الفتنة لما تخلى عن الاستعانة بكفايته علي أيضا، ولما اختاره أهل الكوفة لولاية مصرهم في عهد عثمان حين بدأت بوادر الفتنة، ولكنه كان رجلا ورعا تقيا سمح النفس رضي الخلق، لا يبيع دينه بدنياه، ولا يفرط بمصلحة المسلمين من أجل مصلحته.