للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسلما، أو يشجع على الاقتتال بين المسلمين، أو يسكت عن هذا الاقتتال ولا يأمر بأعلى صوته وبأصرح عبارته بالكف عن الاقتتال.

وقد ضحى بسبب اعتزاله الفتنة، وأمره بالابتعاد عنها ومقاومتها، بمنصبه وحظوته وبكل المظاهر الدنيوية، لأن التزامه بالورع كان أغلى عليه من كل ما في الدنيا من مناصب ومظاهر ومتاع.

كما أن موقفه في التحكيم، أملاه عليه ورعه، وما غلبه عمرو بن العاص، بل غلبه ورعه، فخسر كل ما يملك، وهام على وجهه هاربا، حتى استقر في مكة مبتعدا عن العدو والصديق، إن كان قد أبقى له قول الحق صديقا.

ولم يحقد معاوية على أبي موسى، أنه كان متيقنا أنه كان يتصرف بوحي ورعه، فحفظ له حرمته في حياته وبعد موته. قال أبو بردة (١): "دخلت على معاوية بن أبي سفيان حين أصابته قرحته، فقال: هلم يا ابن أخي، تحول فانظر، فتحولت فنظرت فإذا هي قد سبرت (٢) -يعنى قرحته- فقلت: ليس عليك بأس يا أمير المؤمنين، فدخل يزيد بن معاوية، فقال له معاوية: إن وليت من أمر الناس شيئا، فاستوص بهذا، فإن أباه كان أخا لي، غير أني قد رأيت من القتال ما لم ير" (٣).

وهذا هو منتهى الاستقامة والثبات على المبدأ، لا يميل مع الريح حيث تميل، ولكن يبقى مع الحق وحده، مهما يتحمل في سبيل الحق من أهوال.

هذا هو مبلغ ورع أبي موسى، لذلك كان موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، وقد كتب عمر في وصيته: "أن لا يقر لي عامل


(١) أبو بردة بن أبي موسى الأشعري.
(٢) سبرت: غارت.
(٣) طبقات ابن سعد (٤/ ١١٢).