وهو الصحيح لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات، ولم ينكر أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا أبا بكر وسألوه أن يكتب لهم خطا كتابة رسمية بسهامهم، فأعطاهم ما سألوه، ثم جاءوا إلى عمر، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فإن ثبتم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف، فانصرفوا إلى أبي بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنه، وقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ قال: هو إن شاء الله، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك عامة الصحابة، فلم ينكروا؛ فيكون ذلك إجماعا على ذلك؛ ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام؛ ولهذا أسماهم الله المؤلفة قلوبهم. والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة. وأولئك كثر ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عز الله الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاء، والحكم متى ثبت منقولا بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى اهـ (١).
ويظهر مما تقدم أن حجة القائلين بانقضاء حكم سهم المؤلفة قلوبهم وسقوطه هو نسخ ذلك الحكم بإجماع الصحابة، وبانتفاء معنى حكم ذلك حيث إن حكم التأليف ثبت لمعنى معقول هو الحاجة إلى تأليف القلوب إلى الإسلام، وقد زالت الحاجة إلى ذلك بقوة الإسلام وعزته وتمكين المسلمين من إظهار دينهم والدعوة إليه والثبات عليه والأخذ بمقتضياته.
ولئن اتفق عامة أهل العلم على جواز النسخ من حيث الجملة، وعلى أن القرآن ينسخه قرآن مثله، واختلفوا في جواز نسخ القرآن بالسنة، فقد اتجه عامة أهل العلم ومحققوهم إلى منع نسخ القرآن بإجماع على فرض حصوله.