للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (١) (٨٣) و (١٢٨) الأنعام. والمعتزلة يقولون: إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه. وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة، ونهاهم عنه أخرى. وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا: النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.

وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا: النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا. وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال. إلى أن قال: وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (٢) (١٠٦) البقرة. . . إلخ.

ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين: إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، لكنهم يجوزون هذا عقلا، ويقولون بوقوعه سمعا، فليجوزوا هذا؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ، وهذا ليس بفارق مؤثر، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان: (صوموا إلى نهاية هذا الشهر) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان: (صوموا) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان، قال أول يوم شوال: (أفطروا)، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه


(١) سورة الأنعام الآية ٨٣
(٢) سورة البقرة الآية ١٠٦