للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال: لا يعلم من الأمة أحد خالف في هذه المسألة مخالفة ظاهرة، ولا حكما ولا قضاء ولا علما ولا إفتاء، ولم يقع ذلك إلا من نفر يسير جدا، وقد أنكره عليهم من عاصره غاية الإنكار، وكان أكثرهم يشخص بذلك ولا يظهره، فكيف يكون إجماع الأمة على أخفى (١) دين الله الذي شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم؟ - واتباعهم اجتهاد من خالفه برأيه في ذلك، هذا لا يحل اعتقاده ألبتة، وهذه الأمة كما أنها معصومة من الاجتماع على ضلالة فهي معصومة من أن يظهر أهل الباطل منهم على أهل الحق، ولو كان ما قاله عمر في هذا حقا (٢) للزم في هذه المسألة ظهور أهل الباطل على أهل الحق في كل زمان ومكان، وهذا باطل قطعا.

وقد أجاب ابن القيم - رحمه الله - عن فعل عمر - رضي الله عنه -، وكذلك عن فتاوي الصحابة في ذلك فقال: (٣) ولكن رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق، فرأى عمر أن هذه مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كان عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدر من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله، وتلاعبوا بكتاب الله، وطلقوا على غير ما شرعه الله، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله؛ فهو حقيق أن يعاقب، ويلزم بما التزمه ولا يقر على رخصة الله وسعته، وقد صعبها على نفسه ولم يتق الله ويطلق كما أمره الله وشرعه له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحسانا ولبس على نفسه واختار الأغلظ والأشد، فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان.

وعلم الصحابة - رضي الله عنهم - حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك؛ فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.

فقال عبد الله بن مسعود: من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، ومن لبس على نفسه جعلنا عليه لبسه، والله، لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله منكم هو كما تقولون.

فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكان المطلق قد أتى الأمر على وجهه، ولما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل ذلك «تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم (٤)» ولما توقف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول فاذهب


(١) في الهامش لعل صوابه " إخفاء ".
(٢) قوله " حقا " كذا في المطبوعة.
(٣) أعلام الموقعين ٣/ ٢٩ - ٣١.
(٤) سنن النسائي الطلاق (٣٤٠١).