للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلى عبد الله وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفته فقد جاءتك معضلة، ثم أفتياه بالوقوع.

فالصحابة - رضي الله عنهم - ومقدمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه، ولبسوا على أنفسهم، ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حد لهم؛ ألزموهم بما التزموا، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن من فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه إذ لم يقبل رخصة الله تعالى وتيسيره ومهلته.

ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مائة طلقة: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، إنك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (١).

وأتاه رجل فقال إن عمي طلق ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه، فليتدبر العالم الذي قصده معرفة الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقواهم ربهم - تبارك وتعالى - في التطليق فحرمت عليهم رخصة الله وتيسيره شرعا وقدرا.

فلما ركب الناس الأحموقة وتركوا تقوى الله ولبسوا على أنفسهم، وطلقوا على غير ما شرعه لهم، أرى الله على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعا وقدرا إلزامهم بذلك وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصر الذي جعلوه في أعناقهم كما جعلوه.

وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان.

وقال أيضا مبينا عذر عمر - رضي الله عنه - (٢) الناس طائفتان: طائفة اعتذرت عن هذه الأحاديث لأجل عمر - رضي الله عنه - ومن وافقه - وطائفة اعتذرت عن عمر - رضي الله عنه - ولم ترد الأحاديث فقالوا: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.

والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة - وساق - رحمه الله - طائفة من الأمثلة، ثم قال: ومن ذلك أنه - رضي الله عنه - لما رأى الناس قد أكثروا من الطلاق والثلاث


(١) سورة الطلاق الآية ٢
(٢) إغاثة اللهفان ١/ ٣٣٠ وما بعدها.