للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة، فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها، وذلك إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة، كما كان يضرب في الخمر ثمانين، ويحلق فيها الرأس وينفي عن الوطن، وكما منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين خلفوا عنه عن الاجتماع بنسائهم، فهذا له وجه.

وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط، وقد زال كما ذهب إلى ذلك في متعة الحج إما مطلقا وإما متعة الفسخ فهذا وجه آخر.

وإما لقيام مانع قام في زمنه، منع من جعل الثلاثة واحدة، كما قام عنده مانع من بيع أمهات الأولاد، ومانع من أخذ الجزية من نصارى بني تغلب وغير ذلك، فهذا وجه ثالث.

ومضى إلى أن قال: فلما رأى أمير المؤمنين أن الله - سبحانه - عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجته وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهته الطلاق المحرم، وبغضه له فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا جميعا بأنه ألزمه بها وأمضاها عليه.

فإن قيل: فكان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث ويحرمه عليهم، ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله؛ لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه؟ قيل: لعمر الله! قد كان يمكنه ذلك؛ ولذلك ندم عليه في آخر أيامه وود أنه كان فعله، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك، عن أبيه قال: قال عمر - رضي الله عنه - " ما ندمت على شيء ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح ".

ومن المعلوم أنه - رضي الله عنه - لم يكن مراده تحريم الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى، وعلم بالضرورة من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض وفي الطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول الذي قال الله تعالى فيه: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (١). هذا كله من أبين المحال أن يكون عمر - رضي الله عنه - أراده فتعين قطعا أنه أراد تحريم إيقاع الثلاث، فعلم أنه إنما كان أوقعها لاعتقاده جواز ذلك، ولذلك قال: " إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ " وهذا كالتصريح في أنه غير حرام عنده، وإنما أمضاه لأن المطلق كانت له فسحة من الله تعالى في التفريق، فرغب عما فسح الله تعالى له إلى الشدة والتغليظ، فأمضاه عمر - رضي الله عنه - عليه فلما تبين له ما فيه من الشر والفساد، ندم على أن لا يكون حرم عليهم إيقاع الثلاث ومنعهم منه، وهذا هو مذهب الأكثرين: مالك وأحمد وأبي حنيفة - رحمهم الله -.


(١) سورة البقرة الآية ٢٣٦