إن الحديث الأول حسن، والثاني صحيح، مما يؤكد بأنهما قد نالا القبول من المحدثين في ضوء مناهجهم الدقيقة التي أشرنا إليها آنفا، أما ما ورد في الإنجيل من أقوال منسوبة لعيسى عليه السلام تتشابه في وجه من الوجوه مع ما جاء في هذين الحديثين، فلا يدل على أن المسلمين قد أخذوا متن هذين الحديثين عن أناجيل النصارى؛ لأن جميع الأقوال الواردة في الأناجيل لا يمكن إثبات نسبتها لسيدنا عيسى عليه السلام؛ لانقطاع سلسلة السند بين سيدنا عيسى وبين مؤلفي هذه الأناجيل، ذلك باعتراف علماء اللاهوت أنفسهم.
وعليه فإن أقوال النصارى هذه تعد من قبيل الحديث المرفوض الذي لا يأبه به المحدثون؛ لأنهم يعتبرونه من قبيل الحديث الذي ليس له إسناد قائم.
وعليه فلا يعقل أن يعتمد المحدثون في مروياتهم على أناجيل النصارى التي لا سند لها، بجانب أن مناهج المحدثين تحتم عليهم عدم أخذ الحديث إلا عن العدل الضابط، وهو المسلم البالغ العاقل غير الفاسق ولا مخروم المروءة، وهذه الصفات كما هو معلوم لا تنطبق بحال من الأحوال على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
أما اتهام موريس سيل لابن حجر العسقلاني بأنه استعان بما جاء عند النصارى عندما (فسر كلمة الأريسيين بالفلاحين) فهو زعم خاطئ؛ لأن الأريسين هم فعلا أتباع آريوس، وقد كانوا يقطنون الشام ومصر وشمال أفريقيا، وهذه من البلاد الزراعية، فلا يستبعد أن يكون معظم أنصار هذه الطائفة كانوا من الفلاحين؛ لأن الزراعة هي الحرفة الرئيسة لسكان تلك المنطقة، وعليه فلا يتعارض تفسير ابن حجر مع الواقع التاريخي لأنصار هذه الطائفة، ولهذا فليس هناك أي مبرر موضوعي لهذا الهجوم الصارخ الذي شنه موريس سيل على هذا العالم الجليل.