وقضاء على وحدة المسلمين وقوتهم، بل قضاء على نفوسهم، وحفظ الدين والنفوس من الضروريات الخمس فوجب إيثار ذلك على بقاء القراءات؛ لأن بقاءها كمالي للاستغناء عنها بقراءة منها، لتضمنها ما في القراءات الأخرى من المعاني والأحكام، بخلاف إلزام القضاة أن يحكموا بقول راجح اختير من قولين أو أقوال للفقهاء، فإن ما ظن فيه من المصلحة غير معتبر لشهادة الأدلة السابقة بعدم اعتباره، ولأن القراءات كلها معصومة متحدة الأحكام والمقاصد فصح الاكتفاء بواحدة منها بخلاف أقوال الفقهاء فإنها مختلفة في مقاصدها وأحكامها ولا ينحصر الحق في واحد منها، فلم يجز الاقتصار على ما يرى جماعة من العلماء أنه الراجح منها وإلزام الناس به، فقد يكون الحق فيما ترك.
الثاني: أنه منع من القراءة بما يخالف مصحفه، أما الاحتجاج بالقراءات الأخرى فلم يمنع منه، ولذا لا يزال الاحتجاج بما صح منها قائما باقيا عند جماعة من الأئمة المجتهدين، إما على أنها أخبار آحاد أو قول صحابي عند من يعتبره حجة.
الثالث: إن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام، تيسيرا للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم، فلما لانت بها ألسنتهم لكثرة اجتماعهم والاختلاط بينهم، وكان ما كان من الاختلاف فيها كان بقاؤها كماليا عارضه مصلحة ضرورية، فقدمت على مصلحة بقاء القراءات، ولم يفت المسلمين شيء من أحكام القرآن بذلك؛ لاجتماعها في المصحف الإمام، بخلاف الاقتصار على قول من أقوال الفقهاء فإنه لا يدري عما اختير، هل هو متضمن للحق والصواب أو الحق فيما ترك من الأقوال.
٣ - ومنها: ما رواه سعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة في المصنف أن معاوية كتب إلى زياد أن يأمر شريحا بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فلما أمره زياد قضى بقوله فكان إذا قضى بذلك يقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، فهذا من معاوية وشريح دليل على جواز إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين، وعلى التزام القاضي بذلك ولو كان مجتهدا.