وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي تعليقا على هذا الوجه (١): قال مقيده - عفا الله عنه - فهذا إمام المحدثين وسيد المسلمين في عصره الذي تدارك به الإسلام بعد ما كاد تتزلزل قواعده وتغير عقائده أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - قال للأثرم وابن منصور: أنه رفض حديث ابن عباس قصدا؛ لأنه يرى عدم الاحتجاج به في لزوم الثلاث بلفظ واحد؛ لرواية الحفاظ عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهذا الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - وهو هو - ذكر عنه الحافظ البيهقي أنه ترك الحديث عمدا لذلك الموجب الذي تركه من أجله الإمام أحمد، ولاشك أنهما ما تركاه إلا لموجب يقتضي ذلك.
فإن قيل رواية طاوس في حكم المرفوع ورواية الجماعة المذكورين موقوفة على ابن عباس والمرفوع لا يعارض بالموقوف، فالجواب أن الصحابي إذا خالف ما روي ففيه للعلماء قولان، وهما روايتان عن أحمد - رحمه الله -، الأولى: أنه لا يحتج بالحديث لأنه أعلم الناس به راويه، وقد ترك العمل به وهو عدل عارف، وعلى هذه الرواية فلا إشكال.
وعلى الرواية الأخرى التي هي المشهورة عند العلماء أن العبرة بروايته لا بقوله، فإنه لا تقدم روايته إلا إذا كانت صريحة المعنى أو ظاهرة فيه ظهورا يضعف معه احتمال مقابله، أما إذا كانت محتملة لغير ذلك المعنى احتمالا قويا فإن مخالفة الراوي لما روى تدل على أن ذلك المحتمل الذي ترك ليس هو معنى ما روى، وقد قدمنا أن لفظ طلاق الثلاث في حديث طاوس المذكور محتمل احتمالا قويا لأن تكون الطلقات مفرقة كما جزم به النسائي، وصححه النووي والقرطبي وابن سريج.
فالحاصل أن ترك ابن عباس لجعل الثلاث بفم واحد واحدة يدل على أن معنى الحديث الذي روى ليس كونها بلفظ واحد، واعلم أن ابن عباس لم يثبت عنه أنه أفتى بالثلاث بفم واحد أنها واحدة، وما روى عنه أبو داود من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة فهو معارض بما رواه أبو داود نفسه من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، وترجح رواية إسماعيل بن إبراهيم على رواية حماد بموافقة الحفاظ لإسماعيل في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة، انتهى.
الجواب السابع: حمل الثلاث فيه على أن المراد بها لفظ ألبتة، وكان يراد بها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أراد بها ركانة ثم تتابع الناس فأرادوا بها الثلاث فألزمهم عمر إياها.