للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وثلاثا مع قصد الإيقاع، وكان الصحابة خيارا أمناء فصدقوا فيما قصدوا، فلما تغيرت الأحوال وفشا إيقاع الثالث جملة بلفظ واحد ألزمهم عمر الثلاث في صورة التكرار إذ صار الغالب عليهم قصدها.

ونوقش بأن حمل الحديث على ذلك خلاف الظاهر، فإن الحكم لم يتغير في صورة التكرار فيما بعد عما كان عليه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي عهد أبي بكر وصدر من خلافة عمر، بل الأمر لم يزل على اعتباره واحدة في هذه الصورة عند قصد التوكيد، ومن ينويه لا يفرق بين بر وفاجر، وصادق وكاذب، ومن لا ينويه في الحكم لا يقبل منه مطلقا برا أم فاجرا، وأيضا قول عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة - إلخ يرد حمل الحديث على هذه الصورة، فإن معناه أن الناس استعجلوا فيما شرعه الله لهم متراخيا بعضه عن بعض رحمة منهم بهم، فأوقعوه بلفظ واحد، فهذا يدل على أن لفظ الثلاث في الحديث مراد به جمع الثلاث دفعة، وإن كان في نفسه محتملا (١).

وأجيب سادسا: بمخالفة فتوى ابن عباس لروايته، فإنه لم يكن ليروي حديثا ثم يخالفه إلى رأي نفسه؛ ولذلك لما سئل أحمد بأي شيء تدفع حديث ابن عباس قال برواية الناس عنه من وجوه خلافه، ونوقش بأن الصواب من القولين في مخالفة الراوي لروايته أن الحديث الصحيح المعصوم لا يترك لمخالفة رواية، وهو غير معصوم، إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث أو أنه لا يحضره الحديث وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على المسألة التي خالفه فيها أو يتأول فيه تأويلا مرجوحا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضا له في الواقع، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه، لثقته به واعتقاده أنه إنما خالفه لدليل أقوى منه، وعلى هذا الأصل بنى المالكية والشافعية والحنابلة فروعا كثيرة حيث قدموا العمل برواية الراوي على فتواه، وأيضا كما نقل عن ابن عباس إمضاء الثلاث، وروى عنه اعتبار الثلاث مجموعة طلقة واحدة، وإذا تعارضت الروايتان عدل عنهما إلى الحديث، لكن هذه المناقشة مردودة بأمرين: الأول أن رواية الراوي إنما تقدم على قوله إذا كانت صريحة أو ظاهرة في معنى قال بخلافه، وإلا قدم قوله؛ لأنه يدل على أن الاحتمال الذي خالفه قوله غير مراد من الحديث، وحديث ابن عباس هنا محتمل أن يكون في الطلاق ثلاثا بلفظ واحد، وأن يكون مفرقا كما في الصورة التي في الجواب الخامس عن الحديث، فدلت فتواه على إرادة صورة التفريق لا صورة الاجتماع، الثاني: أن ما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن ابن عباس قال: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة، معارض بما رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن عكرمة أن ذلك من قول عكرمة لا من قول ابن عباس، ورواية إسماعيل مقدمة لموافقته الثقاة في أن ابن عباس يجعلها ثلاثا لا واحدة (٢).

وقد يقال في الأمر الأول: إن لفظ الطلاق الثلاث في الحديث ظاهر فيها مجموعة، وإلا لم يقل عمر - رضي الله عنه - إن الناس استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، إلخ - اعتذارا منه في الحكم على خلاف ظاهره، وبه اعتذر ابن عباس وغيره في إمضاء الثلاث، وقد سبق الكلام في هذا عند مناقشة الجواب عن الحديث


(١) ص - من البحث.
(٢) ص - من البحث.