للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذلك، فللمستدل أن يقول: إن الحديث قد اشتهر نقله وصح سنده ولم يجرؤ أحد على تكذيبه أو تضعيفه بوجه يعتبر مثله كما اشتهر نقل مخالفة فتوى عمر وابن عباس لظاهره، ويشهد لهذا اشتغال العلماء سلفا وخلفا بالأمرين، فبعضهم يؤول الحديث ليتفق مع الفتاوى، وبعضهم يذهب إلى بيان وجه مخالفة الفتاوى له ويبقيه على ظاهره، ويعتذر عن الفتوى بخلافه، وبعضهم يعارضه بفتوى ابن عباس ويقدم العمل بها عليه، إلى غير هذا مما يدل على شهرة النقل للأمرين، وعلى تقدير عدم الشهرة فكم من أمر تتوفر الدواعي على نقله قد نقل آحادا وعمل به جمع من أئمة الفقهاء ورده آخرون بهذه الدعوى.

وأجيب تاسعا: بأن الحديث مضطرب سندا ومتنا، أما اضطراب سنده فلروايته تارة عن طاوس عن ابن عباس، وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس، وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس، وأما اضطراب متنه فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ وتارة يقول: ألم تعلم أن الطلاق الثلاث كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدر من خلافة عمر واحدة.

ونوقش بأن الاضطراب إنما يحكم به على الحديث إذا لم يمكن الجمع ولا الترجيح وكلاهما ممكن فيما نحن فيه، فإن الرواية عن أبي الجوزاء وهم فيها عبد الله بن المؤمل، حيث انتقل في روايته الحديث عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء، وقد كان سيء الحفظ فلا تعارض بها رواية الثقاة عن أبي الصهباء، وأما روايته عن طاوس عن ابن عباس وعن طاوس عن أبي الصهباء وعن ابن عباس فكلاهما ممكن فلا تعارض ولا اضطراب، وأما اختلاف المتن فتقدم بيان الجمع بين الروايتين فلا اضطراب (١).

وأجيب عاشرا: بمعارضته بالإجماع والإجماع معصوم فيقدم، وقد تقدمت مناقشة ذلك (٢) ومن السنة أيضا ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سعد بن إبراهيم، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: «طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كيف طلقتها "؟ قال طلقتها ثلاثا، قال فقال: " في مجلس واحد " قال: نعم، قال: " فإنما تلك واحدة فأرجعهما إن شئت " قال: فراجعها (٣)» فكان ابن عباس يرى الطلاق عند كل طهر، وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد، واستدل بما روي به في رد ابنته - صلى الله عليه وسلم - على زوجها ابن أبي العاص بالنكاح الأول وقدمه على ما يخالفه فهو حجة ما لم يعارضه ما هو أقوى منه، فكيف إذا عضده نظيره أو ما هو أقوى منه، ودلالة متنه ظاهرة في اعتبار الطلاق ثلاثا في مجلس واحد واحدة.

ونوقش بأن المراد بالطلاق الثلاث في الحديث لفظ ألبتة لاشتهارها في الثلاث عند أهل المدينة فرواه بعض


(١) ص - من البحث.
(٢) ص - من البحث.
(٣) سنن أبو داود الطلاق (٢١٩٦)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ٢٦٥).