العقيدة، كلاهما ينبذ النصوص الضيقة فلا يتعلل في التخاذل عن الحق، بحروف وكلمات.
ولم يكن سعد يجاهد في بدر ببأسه وحده، ولكن عقله من فوقه يرسم الخطة ويدير المعركة، وقد اقترح على الرسول أن يبني له عريشا خاصا به كي لا يتعرض إلى سهم غادر أو رمية آثمة، وعضد رأيه بأن القيادة محتاجة إلى سياج خاص لتتمكن من إدارة المعركة بعيدة عن الزعازع في ظرف عاصف تغشاه النذر وتتهدده الخطوب. وقد أجاب محمد ما اقترح عليه ووقف سعد أمام العريش يدفع عنه بنفسه ويقول لرسول الله مطمئنا لو دارت الدائرة على الأنصار ففي المدينة من إخوانهم من يأخذون مكانهم ذيادا على الإسلام. . وقد صدق الله وعده وانكسر الشرك انكسارا فطأطأت له الرقاب ونكست من أجله الحياة، ونظر سعد فرأى كتائب الأسر تتلاحق وعفو رسول الله يفيض، فعرف الغضب في وجهه إذ كان على رأي عمر ممن يودون أن يقوم السيف بدوره في رقاب ظالمة معتدية، لم يكفها أن فر المسلمون من مكة حتى دفع الغرور أصحابها إلى مهاجمتهم بالمدينة واستئصالهم في غير ديارهم ولكن الرسول يطمئن سعدا فيعود إلى صفائه معتقدا أن هناك من يرجحه في النظر والتدبير.
توالت الوقائع بعد بدر في أحد والخندق فأما أحد فقد قام في حلبتها يعد بواجبه فناضل وجالد وتلقى الهزيمة في النهاية بعزيمة ماضية وإيمان حصين، وأما غزوة الخندق فقد كان سيد الأوس بها بطلا مرموقا تتوقف النتائج الحاسمة على كفاحه وجلاده، وقد راعه أن يغدر حلفاؤه اليهود من بني قريظة بعهودهم فيخونوا الإسلام في مأزق ضائق وينضموا إلى المشركين ليوقعوا المسلمين بين المطرقة والسندان. . وكانت هذه الخيانة الرهيبة محنة قاسية تصب ويلاتها المحرقة على الجيش الإسلامي فابتلي المسلمون وزلزلوا زلزالا شديدا، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقد أظهر الذين في قلوبهم مرض من المنافقين ضغائنهم السوداء فارتابوا في الإسلام وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ثم استأذنوا في الانسحاب متمسكين بأوهى الخيوط ومعتذرين بأفضح التعلات، في هذه الغمرة الغاشية ثبت سعد ثبات الصناديد واستشعر مددا حافلا من السماء يباركه ويؤازره دون أن تميل به الظنون إلى يأس وقنوط بل زادته الرهبة إيمانا بالحق ويقينا بنصرة الإسلام، فحين عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غطفان أن تأخذ ثلث ثمار المدينة وتنفض يدها من الحرب راجعة أدراجها ثانية فتتفرق كلمة المشركين ويدرأ الإسلام بعض الخطر عن كيانه، حين عرض ذلك لم يقبل سعد بن معاذ أن يذيق أعداءه خير بلاده، وقال:(يا رسول الله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطعمون منا ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام نعطيهم أموالنا ونهديهم خيرنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة ووالله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم)(١) وهذا قول يصدر عن حمية وأنفة، وقد أدرك الرسول صدق صاحبه وإخلاصه، فنزل على رأيه ورفض الصلح مع غطفان، وفي استماع محمد إلى رأي سعد تقدير
(١) السيرة النبوية للحافظ ابن كثير جـ ٢ ص ٢٠٢ ط ١٩٦٥ م.