من أفواههم وأشاعوا الريب والشكوك ورأوا في الدعاية المغرضة سلاحا لا يفل، والآخرون قد ائتمروا على قتل الرسول وتحالفوا مع بعض المنافقين على المناجزة دون أن تتيح لهم الفرص طريقا يصلون منه إلى التنفيذ، وهؤلاء وأولئك أهون خطبا من الذين سلوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية.
فتعادل الكفتين بينهما طيش لا يقره إنصاف. وقد جلا بنو قينقاع وبنو النضير عن المدينة فكانوا مثار القلق والفتنة، ومبعث الضيق للمسلمين فهم الذين ألبوا الأحزاب وجمعوا القبائل مع المشركين ليوم الخندق فأعطوا بمؤامراتهم المزعجة محمدا درسا حاسما يحتم استئصال شأفتهم، وتتبع أفاعيهم في كل مكمن ليطفئ لهبا يستعر إذا هبت عليه الريح وقد تحقق الدرس مبدئيا في يهود بني قريظة، وظهرت نتائجه الحاسمة في خيبر حيث تعرض اليهود على يد محمد لزلزال رهيب.
والذين يستهولون حكم سعد على حلفائه يجهلون أن التوراة التي يدين بها هؤلاء اليهود توجبه وتفرضه، فهو حكم يعلمونه من نصوصهم ويشيدون بعدالته في أطوائهم وما على المسلمين ملامة إذا قضوا بحكم يعترف به أعداؤهم دون أن يجدوا وجها للنقض والاستئناف فقد جاء بالإصحاح العشرين في سفر التثنية (وإن لم تسالمك أي قرية بل حاربتك فحاصرها وإذا دفعها الرب إلهك إلى يديك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف).
ويقول الزعيم الهندي الكبير مولاي محمد علي تعليقا على هذا النص في كتابه " محمد رسول الله ": (لقد كان القاضي من اختيارهم وكان الحكم مطابقا كل المطابقة لشريعتهم فماذا يمكن أن يعاب في ذلك على النبي)
وهذا تعليق نؤيده ونستشهد به لكننا نخالف المؤلف الكبير حين ذكر أن يهود بني قريظة لو تركوا أمرهم للنبي دون سعد لقضى عليهم بما قضى به على يهود بني قينقاع وبني النضير، نخالفه في ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوي في الحكم بين جريمتين متباعدتين تقف إحداهما عند الهم، وتتجاوزه الأخرى إلى التنفيذ والمناجزة، وما لنا نبعد وأمامنا قول الرسول لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات (١)» وإذا كانت الموازنة الدقيقة تكشف عن معادن الرجال وتبين الفروق الواضحة بين الطيب والخبيث فإن موقف سعد من أحلافه يهود بني قريظة يبرز مدى إيمانه الراسخ إذا قورن بموقف عبد الله بن أبي من أحلافه يهود بني قينقاع حين اضطربت عليهم الأمور، وتكشفت للرسول ضغائنهم السود فقد جاء رأس النفاق إلى رسول الله وهو يصيح (أحسن إلي في موالي، أحسن إلي في موالي) فأبطأ عنه الرسول فلجأ إلى التشهير ورفع صوته متشنجا كأنه يدافع عن حق صريح ودفعه سوء الأدب فوضع يده في جيب محمد في صخب مفتعل وهو يقول: (لا
(١) صحيح البخاري الجهاد والسير (٣٠٤٣)، صحيح مسلم الجهاد والسير (١٧٦٨)، سنن أبو داود الأدب (٥٢١٥)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٢).