للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هل هي مجرد وعاء لحمى يستوعب بذور الخلق ليقذفها بعد آماد محدودة إلى عالم الوجود؟ أم هي مخلوق عاجز مشلول استقر كل هذا الحنان الصيب من قلب الرسول فجاش حيا نابضا في كلماته؟ أم تراها مصدر إشعاع روحي خطير إلى جوار كونها مصدر إشعاع وجودي أصيل؟

الذي أعرفه. . أن الأمومة لو كانت مجرد وعاء لحمي، أو مجرد قوة مشلولة تستأهل العطف. . لكانت في موازين الحياة أخف وزنا مما هي الآن. . فما أكثر ما نشاهد من حشرات. . أو دواب. . أهلتها طبيعتها المؤنثة لكي تصير أما تهب الوجود خلقا جديدا.

إن الأمومة قد تبوأت هذه القمة لأن لها دورا. . إنها صاحبة دور من أخطر أدوار البناء والتوجيه في حياة المجتمع. . فعلى قدر ما تبذل. . وتبني. . وتسدد. . نجل فيها مصدر العطاء وسبب الوجود. . وبمقدار ما تتخلى عن هذا الدور أو تنتكس. . ننغض إليها الرأس احتقارا ونشيج عنها بالأعين ازورارا.

ألست معي في أن أما كأسماء بنت أبي بكر. . تعدل ملايين الأمهات ممن يقبعن داخل جدران بيوتهن. . يغزلن في قطن خائر رخو. . أو يجدفن في أمواج متلاطمة من دماء الأعراض والحرمات؟ إن هذه أم. . وتلك أم. . بحتمية التقائهما في إطار الإنجاب. . ولكن ما أوسع البون بينهما في مجالات الموازنة أو المقارنة، أو المضاهاة. . إن أسماء بنت أبي بكر. . أم عرفت حقيقة دورها في الحياة. . فدفعت بابنها الباسل عبد الله بن الزبير على خشبة الصلب، غير عابئة بثكل يقترب. . أو خطب يدمدم، أو إعسار أسى ينوح!! وحين تلمح بوادر التردد تزحف على جبين عبد الله من خلال كلماته: يا أمي. . إني خائف أن يمثلوا بي بعد القتل! تنتفض في أمومة فدائية بطلة، تعتصر جراحها بيديها وهي تقول: امض على بركة الله يا بني. . فإن الشاة لا يضرها بعد الذبح أن تسلخ، فتحضأ بكلماتها نار الإقدام في أعماق الفارس المصلوب فيمضي إلى القتل. . كأنه ماض إلى موعد بسام.

وحين تطول بابنها ضراوة الصلب. . لا تقعي. . ولا تتهالك. . وإنما تمضي على طريقها الباسل بخطوات فيها تحد. . وفيها كبرياء. . ولا تزيد حين تنظر إليه على أن تغلف كلماتها بالسخرية ممن صلبوه فتقول: ها. . قولوا للحجاج. . أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!

لبيك من كل أعماقنا يا أسماء. . إننا أبناؤك وإن عز البديل عن عبد الله. . إننا أبناء كلماتك الشجاعة الفذة. . أبناء أمومتك الفدائية البطلة. . التي تتحرق إلى أمثالها شوقا أعماق الوجود!!

ومن هنا. . ومن نقطة انطلاقنا هذه. . نستطيع أن نلمح في إضاءة كاشفة نظرة الإسلام إلى الأمومة. . إنه يكرم في الأمومة قلبها النابض بالحب. . وعقلها الخافق بالمعرفة. . وجسدها المتأبي على نداءات الحضيض. . إنه يكرم فيها الأم. . والمدرسة. . والكيان المستعلي في كبرياء ذاتي نبيل.

وحين تتحقق للأمومة هذه الأقانيم. . أعني قلبها النابض. . وعقلها الخافق. . وجسدها الكبريائي. .