للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولعله ليس بخاف ما حصل للمخلفين الثلاثة في غزوة تبوك من تأخير التوبة عليهم - مع فضلهم وسبقهم - ومقاطعة المسلمين لهم فضاقت الأرض عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، فيقول أحدهم وهو كعب - رضي الله عنه - واصفا حالهم: حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكر لنا الناس ما هم الذين نعرف، وهكذا،. . . إلى أن أمروا باعتزال نسائهم وبقوا يبكون لا يكلمهم أحد ولا يرد عليهم سلاما، حتى أذن الله بالتوبة عليهم (١).

كل هذا لا لحرام اقترفوه ولا لجريمة جنوها سوى أنهم لم يبادروا إلى الخروج معه - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة لا لنفاق أو شك في قلوبهم ولكن تسويفا وتباطوءا، وهكذا كانت التربية في تلك الفترة تربية جادة، وكانت المؤاخذة لهؤلاء النفر الثلاثة مختلفة عن المؤاخذة لغيرهم من المنافقين والضعفاء، وذلك لإعداد مجتمع رباني وقاعدة صلبة للقيام بمهام الدعوة والدفاع عن الدين وأهله.

وهكذا بقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه ويتعهدهم ويغرس في نفوسهم روح السبق والمبادرة على ضوء ما يتنزل من الذكر الحكيم، وكان هو ذاته - صلى الله عليه وسلم - لهم قدوة وأسوة حسنة في القول والفعل حتى أصبح هذا العنصر عنصر المبادرة شيمة من شيمهم، وجزءا لا ينفصل عن ذواتهم، يطيرون إليه مستسهلين كل صعب، مستعذبين كل مر، مستقربين كل بعيد، مستبعدين كل عذر وإن بدا وجيها، متجاهلين كل المعوقات


(١) انظر القصة بتمامها في صحيح البخاري " المغازي " (٨/ ١١٣ - ١١٦).