للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على مريم أن يكونوا سواء في كفالتها فتنافسوها. ثم قال: فالقرعة تلزم أحدهم ما يدفع عن نفسه وتخلص له ما يرغب فيه لنفسه، وتقطع ذلك عن غيره ممن هو في مثل حاله. (قال): وهكذا معنى قرعة يونس -صلى الله عليه وسلم- لما وقفت بهم السفينة، فقالوا: ما يمنعها من أن تجري إلا علة بها، وما علتها إلا ذو ذنب فيها، فتعالوا نقترع. فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس - عليه السلام - فأخرجوه منها وأقاموا فيها. وهذا مثل معنى القرعة في الذين اقترعوا على كفالة مريم؛ لأن حال الركبان كانت مستوية، وإن لم يكن في هذا حكم يلزم أحدهم في حالة شيئا لم يلزمه قبل القرعة، ويزيل عن آخر شيئا كان يلزمه، فهو يثبت على بعض حقا ويبين في بعض أنه بريء منه، كما كان في الذين اقترعوا على كفالة مريم غرم وسقوط غرم. (قال الشافعي): وقرعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل موضع أقرع فيه في مثل معنى الذين اقترعوا على كفالة مريم سواء لا يخالفه، وذلك أنه أقرع بين مماليك أعتقوا معا، فجعل العتق تاما لثلثهم، وأسقط عن ثلثيهم بالقرعة، وذلك أن المعتق في مرضه أعتق ماله ومال غيره، فجاز عتقه في ماله ولم يجز في مال غيره، فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- العتق في ثلثه ولم يبعضه كما يجمع القسم بين أهل المواريث ولا يبعض عليهم، وكذلك كان إقراعه لنسائه أن يقسم لكل واحدة منهن في الحضر، فلما كان السفر كان منزلة يضيق فيها الخروج بكلهن، فأقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وسقط حق غيرها في غيبته بها، فإذا حضر عاد للقسم لغيرها، ولم يحسب عليها أيام سفرها. وكذلك قسم خيبر، فكان أربعة أخماسها لمن حضر، ثم أقرع، فأيهم خرج سهمه على جزء مجتمع كان له بكماله وانقطع منه حق غيره، وانقطع حقه عن غيره. (أخبرنا) ابن عيينة عن إسماعيل بن أمية عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول عن ابن المسيب، «أن امرأة أعتقت ستة مملوكين لها عند الموت، ليس لها مال غيرهم، فأقرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (١)». أخبرنا عبد الوهاب عن أيوب عن رجل عن أبي المهلب عن عمران بن حصين، «أن رجلا من الأنصار إما قال: أوصى عند موته فأعتق ستة مملوكين ليس له شيء غيرهم، وإما قال: أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا، ثم دعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة (٢)». إلى أن قال: (أخبرنا) ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه قضى في رجل أوصى بعتق رقيقه وفيهم الكبير والصغير، فاستشار عمر رجلا منهم خارجة بن زيد بن ثابت، فأقرع بينهم. قال أبو الزناد: وحدثني رجل عن الحسن، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقرع بينهم. ثم ساق كلاما وقال بعده: (قال الشافعي): وبهذا كله نأخذ، وحديث القرعة عن عمران بن حصين وابن المسيب موافق قول ابن عمر في العتق لا يختلفان في شيء حكي فيهما ولا في واحد منهما، وذلك أن المعتق أعتق رقيقه عند الموت ولا مال له غيرهم إن كان أعتقهم عتق بتات في حياته، فهكذا فيما أرى الحديث، فقد دلت السنة على معان منها: إن أعتق البتات عند الموت إذا لم يصح المريض قبل أن يموت فهو وصية كعتقه بعد الموت، فلما أقرع النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم، فأعتق الثلث وأرق الثلثين، استدللنا على أن المعتق أعتق ماله ومال غيره، فأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- ماله، ورد مال غيره. اهـ المقصود (٣). .


(١) صحيح مسلم الأيمان (١٦٦٨)، سنن الترمذي الأحكام (١٣٦٤)، سنن النسائي الجنائز (١٩٥٨)، سنن أبو داود العتق (٣٩٥٨)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣٤٥)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٤٤٦).
(٢) صحيح مسلم الأيمان (١٦٦٨)، سنن الترمذي الأحكام (١٣٦٤)، سنن النسائي الجنائز (١٩٥٨)، سنن أبو داود العتق (٣٩٥٨)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣٤٥)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٤٣١)، موطأ مالك العتق والولاء (١٥٠٦).
(٣) الأم للشافعي ج٨ ص٣/ ٤ ط الأولى ١٣٨١هـ ١٩٦١م