للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد أجاب شيخ الإسلام بأن القسامة من الحدود لا من الحقوق فقال: وهذه الأمور -أي أمثلة منها القسامة- من الحدود في المصالح العامة ليس من الحقوق الخاصة، وقال: فلولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفك الدماء، فيقتل الرجل عدوه خفية ولا يمكن لأولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين (١).

وقد أجاب ابن القيم رحمه الله بجواب آخر عن هذا الدليل فقال: وأما حديث ابن عباس: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه (٢)» فهذا إنما يدل على أنه لا يعطى أحد بمجرد دعواه دم رجل ولا ماله، وأما في القسامة فلم يعط الأولياء فيها بمجرد دعواهم، بل البينة وهي ظهور اللوث وأيمان خمسين لا بمجرد الدعوى، وظهور اللوث وحلف خمسين يمين بمنزلة الشهادة أو أقوى، وقاعدة الشرع: أن اليمين تكون في جانب أقوى المتداعيين، ولهذا يقضى للمدعي بيمينه إذا أقام شاهدا واحدا لقوة جانبه بالشاهد فالقضاء بها في القسامة مع قوة جانب المدعين باللوث الظاهر أولى وأحرى (٣) انتهى المقصود.

وقد بسط ابن القيم -رحمه الله تعالى- هذا الجواب في موضع آخر (٤).

وجواب ثالث عن مالك بن أنس -رحمه الله- قال: إنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال فلو لم تكن القسامة إلا فيما ثبت فيه البينة وعمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدءون بها ليكف الناس عن القتل وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك (٥).

أما الاستصحاب فقال ابن رشد: وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها، فمنها: أن الأصل في الشرع ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر. ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه.

فقال: ما تقولون في القسامة؟

فأضب القوم وقالوا: نقول: القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء.


(١) الفتاوى المصرية ج٤ ص٢٩١.
(٢) صحيح البخاري تفسير القرآن (٤٥٥٢)، صحيح مسلم الأقضية (١٧١١)، سنن الترمذي الأحكام (١٣٤٢)، سنن النسائي آداب القضاة (٥٤٢٥)، سنن أبو داود الأقضية (٣٦١٩)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣٢١)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ٢٨٨).
(٣) تهذيب سنن أبي داود ج٦ ص ٣٢٥ - ٣٢٦.
(٤) إعلام الموقعين ج٢ ص٣٣١ - ٣٣٢.
(٥) الموطأ على المنتقى للباجي ج٧ ص٦١.