للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ونازعه بعض المالكية فقال: لم يقل مالك ولا أحد من أهل مذهبه بثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح، وإنما قالوا: إن قول المحتضر عند موته فلان قتلني لوث يوجب القسامة، فيقسم اثنان فصاعدا من عصبته بشرط الذكورية، وقد وافق بعض المالكية الجمهور، واحتج من قال بالتدمية أن دعوى من وصل إلى تلك الحالة وهي وقت خلاصه وتوبته عند معاينة مفارقة الدنيا يدل على أنه لا يقول إلا حقا، قالوا: وهي أقوى من قول الشافعية: إن الولي يقسم إذا وجد قرب وليه المقتول رجلا معه سكين، لجواز أن يكون القاتل غير من معه السكين، انتهى بواسطة ابن حجر (١).

وقد ناقش ابن حزم الاستدلال بهذا الحديث أيضا فقال: قال أبو محمد -رحمه الله-: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى مسلم نا عبد بن حميد، نا عبد الرزاق، نا معمر، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أنس «أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها، ثم ألقاها في قليب، ورضخ رأسها بالحجارة وأخذ، فأتي به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر به أن يرجم حتى يموت، (٢)» وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، وأبان بن يزيد العطار، كلاهما عن قتادة، عن أنس.

فإن قالوا: إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتول في هذه القصة، وزيادة العدل مقبولة.

قلنا: صدقتم، وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة، عن أنس في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها، كما روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد، نا همام، عن قتادة، عن أنس «أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان، فلان، حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها فأخذ اليهودي، فأقر، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرض رأسه بالحجارة، (٣)» فصح أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقتل اليهودي إلا بإقراره، لا بدعوى المقتولة.

ووجه آخر، وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه -عليه السلام- إنما قتله بدعواها لكان هذا الخبر حجة عليهم، ولكانوا مخالفين له؛ لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا، وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة البتة حتى يحلف اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد.

وأيضا فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ، والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ؛ لأنه ذكر جارية ذات أوضاح، وهذه الصفة عند العرب الذين بلغتهم تكلم أنس إنما يوقعونها على الصبية لا على المرأة البالغة، فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه، ولاح خلافهم في ذلك، فوجب القول به، ولا يحل لأحد العدول عنه (٤) وقال الباجي أيضا: واستدلوا من جهة المعنى بأن الغالب من أحوال الناس عند الموت ألا يتزودوا من الدنيا قتل النفس التي حرم الله، بل يسعى إلى التوبة والاستغفار والندم على التفريط، ورد المظالم، ولا أحد أبغض إلى المقتول من القاتل، فمحال أن يتزود من الدنيا سفك دم حرام يعدل إليه، ويحقن دم قاتله.

قال الباجي بعد ذكره لاستدلال المالكية بقصة البقرة والجارية: وهذا الدليل من المعنى، قال: -وهذا عمدة


(١) الفتح ج١٢ ص١٩٩. .
(٢) صحيح البخاري الديات (٦٨٧٧)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (١٦٧٢)، سنن الترمذي كتاب الديات (١٣٩٤)، سنن النسائي القسامة (٤٧٤٢)، سنن أبو داود الديات (٤٥٢٨)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٦٦)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٠٣)، سنن الدارمي الديات (٢٣٥٥).
(٣) صحيح البخاري الديات (٦٨٧٧)، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (١٦٧٢)، سنن الترمذي كتاب الديات (١٣٩٤)، سنن النسائي القسامة (٤٧٤٢)، سنن أبو داود الديات (٤٥٢٧)، سنن ابن ماجه الديات (٢٦٦٦)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٠٣)، سنن الدارمي الديات (٢٣٥٥).
(٤) المحلى ج١١ ص ٨٤ ويرجع أيضا إلى شرح معاني الآثار للطحاوي ج٢ ص١٩٠ - ١٩١. .