للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سيناء يقدم الفلاسفة فلهم وبخسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه، ومحنه وتنقلاته، يحتمل أن ترصع في مجلدتين، فالله تعالى يغفر له ويسكنه فسيح جناته، فإنه كان رباني الأمة، وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، رأسا في العلم يبالغ في أمر قيامه بالحق والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لحظتها من فقيه.

وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس وله نحو العشرين سنة، وصنف التصانيف، وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار، التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله، وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين -فضلا عن المذاهب الأربعة- فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرا، ويدري جملة صالحة في اللغة، وعربيته قوية جدا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس) (١).

ويقول مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى عام ١٠٣٣هـ: (ولقد سئل يوما عن الحديث: «لعن الله المحلل والمحلل له (٢)»، فلم يزل يورد فيه وعليه، حتى


(١) انظر (العقود الدرية) ص٢٢ - ٢٤.
(٢) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، ٢/ ٢٢٧.