إن شيئا من ذلك لا يمكن أن يدعيه عاقل به ذرة من حكمة، أو تجرد، أو نصفة، أو بعد نظر، أو حتى بصيص شعاع من سلامة الفطرة.
وحتى الأمية، التي هي بمعنى (عدم إجادة الكتابة أو القراءة من كتاب) فإنها ليست نقصا في حد ذاتها، وعلى كل حال فقد كان من ديدن العرب، أنهم كانوا يعدون من كمال الرجل اعتماده على حفظ ما يعجبه من شعر وخطب ومثل، وتخزين ما يهمه ويخدم مصالحه وييسر سبل حياته واحتياجاته، من علوم الطب والأنساب والنجوم والأنواء على حافظته القوية، وبصيرته اللماحة، وذاكرته النشطة، وذهنه المتوقد. بل إنهم كانوا يعيبون على كل من يجعل المسطور عمدته في كل شيء؛ لأنه بذلك يعطل بصيرته، ويجمد فطانته، ويبلد ذهنه، ويهدر ما لديه من طاقات ومواهب وملكات، حتى صار قول قائلهم:
ليس بعلم ما حواه القمطر ... إنما العلم ما وعاه الصدر
وقول الآخر:
العلم في الصدور لا في السطور
مثلا سائرا بينهم، على مختلف عصورهم، وتباين طبقاتهم، لا يعترض عليه فيهم معترض، ولا يجافيه منهم مجاف أو معاند أو مكابر.
فهل يمكن أحدا كائنا من كان أن يصف بالقصور أو النقص، من أغناه توقد ذهنه وبريق حافظته، عن الارتماء في