للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سببا لفوات مقصوده.

وبينما نجد العلماء يختلفون فيما بينهم على هذا النحو الذي بينا، نجد الإمام ابن القيم يرى مذهبا وسطا بين المذهبين، فيقول (١): " والحق التفصيل؛ فيكره حيث استلزم ذلك (ضياع مقصود العامي) ولا يكره - بل يستحب - إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان إزالة لبس ".

وأيد رأيه (٢) بما ورد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من التفصيل في كثير من أجوبته بقوله: إن كان كذا، فالأمر كذا، وذكر من ذلك قصة الذي وقع على جارة امرأته، فقال (صلى الله عليه وسلم): " إن كان استكرهها فهي حرة، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت مطاوعة، فهي له، وعليه لسيدتها مثلها ".

ومن هذه الصور التي يتجلى فيها معنى الاحتراز والحيطة ما إذا كانت الفتوى قد يفهم منها أنها بنيت على معنى من المعاني، فقد يذهب نظر المستفتي إلى أنه هو العمدة في هذا الحكم، فيراعيه في القضايا التي يوجد فيها، وحين يكون هناك مانع يمنع من هذا، ينبغي التنبيه إليه، والاحتراز مما قد يؤدي إليه الفهم منه، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها (٣)» (٤)، ففي النهي عن الجلوس عليها نوع تعظيم لها، وحيث خشي (صلى الله عليه وسلم) أن يراعى تعظيمها فيعمل كل ما كان من شأنه خدمة هذا المعنى، ومن ذلك الصلاة إليها - لما خشي ذلك، صرح بالنهي عن المبالغة في تعظيمها، حتى تجعل قبلة يصلى إليها (٥).

ومن هذه الصور أيضا أن المفتي حينما يلقي الحكم على المستفتي، فمن اللائق به أن يذكر دليل الحكم ومأخذه؛ فإن في هذه الطريقة احتياطيا لكسب ثقة المستفتي بمفتيه، واطمئنان نفسه بالحكم الذي تلقاه منه، وفيها احتياطيا للمفتي بحيث يبرهن لغيره أنه إنما أفتاه عن علم ويقين لا عن تخرص وتخمين (٦).

والناظر في فتاوى النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي قوله حجة بنفسه، لا يحتاج إلى شيء يعضده ويسانده، يجدها مشتملة على التنبيه إلى حكمة الحكم، ووجه مشروعيته، ونظيره من الأحكام حتى يتأيد بها.


(١) المصدر نفسه والصفحة نفسها.
(٢) المصدر نفسه، ٤/ ٢٥٦.
(٣) صحيح مسلم الجنائز (٩٧٢)، سنن الترمذي الجنائز (١٠٥٠)، سنن النسائي القبلة (٧٦٠)، سنن أبو داود الجنائز (٣٢٢٩)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ١٣٥).
(٤) أبو البركات بن تيمية، منتقى الأخبار، باب "المواضيع المنهي عنها والمأذون فيها للصلاة ".
(٥) ابن القيم، أعلام الموقعين ٤/ ١٦٠.
(٦) المصدر نفسه، ٤/ ١٦١