للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص قال: «سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يسأل عن اشتراء التمر بالرطب، فقال لمن حوله: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك (١)» (٢) فمن المعلوم يقينا أنه (صلى الله عليه وسلم) يعلم نقصان الرطب بعد يبسه، ولكنه أراد بهذا السؤال أن ينبههم إلى علة تحريم بيعه بالتمر.

ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود من «قوله (صلى الله عليه وسلم) لعمر حين سأله عن حكم تقبيل الصائم لامرأته: " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ قلت: لا بأس بذلك؟ قال (صلى الله عليه وسلم): ففيم (٣)»؛ فهو أتى بين يدي الفتوى بمقدمة الشرب للصائم وهي المضمضة، وسأله عن حكمها ليتوصل من هذا إلى نقل مثل هذا الحكم إلى تقبيل الصائم لامرأته؛ إذ هما نظيران فكل واحد منهما مقدمة لمحظور، ولا يلزم من ذلك أن يكونا محظورين.

ومن هذه الصور - أيضا - أن المسألة حينما يكون في حكمها خلاف بين العلماء، فإن المفتي ينظر فيها على أساس من الاحتياط والاحتراز، فإن رأى أن الفتوى فيها ستثير استنكار بعض العلماء، وتوقع في التنازع، وتؤدي إلى الطعن فيه، فإن الاحتراز من ذلك يقضي بأن يحكى ما فيها من خلاف، ويورد ما لكل مذهب من أدلة، وينقل من الكتب ما يلائم المقام من نصوص. وبذلك يبين وجه الصواب لغيره ممن نازعه من العلماء، ويصون عرضه مما قد يحتمل من الطعن فيه.

وإن رأى أن الفتوى لا يقصد بها إلا مجرد الاسترشاد، ولا يحتمل من ورائها أن تثير استنكارا، ولا أن توقع في نزاع، أو تؤدي إلى طعن، فإنه يقتصر حينئذ على الجواب عن السؤال مجردا عن ذكر الخلافات وما يصاحبها من أدلة متباينة ونقول مختلفة، وهذا هو ما تقضي به مراعاة الاحتراز في الفتوى عن التشويش على المستفتي، والخوف من وقوعه في بلبلة فكرية من كثرة الآراء التي ألقيت عليه، فلا يدري بأيها يأخذ (٤). ومن صور الاحتراز التي ينبغي للمفتي التفطن لها أن لا يترك شيئا مما تلفظ به المستفتي مما له تأثير في الحكم إلا كتبه؛ وذلك أن المستفتي قد يأتي بفتوى محررة، لكنه يتلفظ بأمور ليست مكتوبة، وهي لها أثر في الحكم، فحينئذ ينبغي للمفتي أن يكتبها " بخطه بين الأسطر، أو يقول: قال المستفتي من لفظه كذا " (٥)؛ لأن في ترك ذلك - مع أنه قد راعاه في الفتيا - طعنا عليه في فتياه، فينبغي له أن يتحرز من هذا الطعن.

كما ينبغي له أن يتفقد أسطر الورقة تفقدا تاما، فإذا رأى في السطر بياضا سدده، وإذا رأى في السطر الأخير نقصا أكمله بخطه بما يكتبه في الفتيا؛ وذلك لأن مثل هذه الفراغات تكون مجالا للتوصل للباطل


(١) سنن الترمذي البيوع (١٢٢٥)، سنن أبو داود البيوع (٣٣٥٩)، سنن ابن ماجه التجارات (٢٢٦٤)، مسند أحمد بن حنبل (١/ ١٧٩)، موطأ مالك البيوع (١٣١٦).
(٢) أبو البركات بن تيمية، منتقى الأخبار.
(٣) المصدر نفسه، باب "الصائم يتمضمض أو يغتسل من الحر".
(٤) القرافي، الأحكام، ص٢٦٨.
(٥) المصدر نفسه، ص٢٥٥.