٣ - كان بين المسلمين منافقون يندسون في خفاء، ومن مصلحتهم دائما إثارة الفتن بين المسلمين، والأوقات العصبية كالحروب هي أنسب الأوقات لنشر الفتن، وبث الإشاعات، حيث تكون النفوس قلقة غير مستقرة، يسهل أن تتقبل أي شيء فانتهز المنافقون هذه الفرصة، وأخذوا يشيعون بين الأنصار هذه الوساوس من تفضيل النبي لقبائل كثيرة محدثة في الإسلام على الأنصار، ومن أنه سيترك المدينة ويقيم بين أهله في مكة، ونحو ذلك مما ملأ نفوس كثير من الأنصار بالمخاوف والوساوس، وعندما أحس النبي - صلى الله عليه وسلم- بهذه الفتنة أمر أن يجتمع الأنصار فاجتمعوا وألقى فيهم هذه الخطبة.
من الواضح في الخطبة أنها مقسمة إلى عناصر محددة متميزة، وهذه العناصر تتدرج إلى الغرض المنشود في ترتيب وتنسيق واضحين، ونستطيع الإلمام السريع بهذه العناصر كما يلي:
١ - في المستوى العالي من الخطابة لا بد للخطيب من (مقدمة) يجعلها منطلقا ومدخلا إلى موضوعه، وتختلف هذه المقدمة من خطبة إلى خطبة باختلاف الموضوع والمناسبة والظروف، ولكن لا بد من أن تكون مثيرة للانتباه، وموضع تسليم السامعين، بحيث يترتب على ذلك أن تكون أساسا لمتابعة موضوع الخطبة حتى النهاية. ومقدرة الخطيب وبلاغته هي التي تحدد طابع هذا التمهيد ونوعه، ولكن التمهيد يكون في أغلب الأحيان مقياسا أو سببا أساسيا لمدى نجاح الخطبة أو فشلها.
والنبي- صلى الله عليه وسلم- بدأ خطبته بهذا التمهيد الموجز المركز، الذي يملأ نفوس السامعين اقتناعا وتسليما، فهو يذكرهم في صورة سؤال «ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ (١)» وليس أحد من الأنصار أو غير الأنصار من المسلمين يشك في أن الرسول هو سبب هدايتهم إلى الله، ولولاه لم يكونوا مسلمين. فهذه حقيقة لا نزاع فيها بين أحد منهم. وكذلك كونهم فقراء فأصبحوا بالغنائم وموارد الإسلام أغنياء، حقيقة أخرى لا ينازعون فيها، وكذلك كونهم كانوا أعداء دائمي التصارع والتقاتل أمر لا يتنازعون فيه لأنه كان واضحا ومعروفا لهم ولغيرهم وكون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان سببا في تآلفهم وتآخيهم أمر واضح ومسلم من الجميع.
وإذن فهذه حقائق مسلمة، يذكرهم بها الرسول، ليلفت نظرهم مقدما إلى أنهم مهما كان من جهدهم وتضحيتهم في سبيل الإسلام، فإن فضله عليهم أعظم وأسبق، وحيث كانوا يسلمون بذلك ولا ينازعون فيه، فإن نفوسهم تكون بهذا التمهيد قد بدأت النظر للموضوع نظرة تختلف عن نظرتها قبله، وبهذا يكون من أهم العوامل في تغيير مجرى تفكيرهم، وفي جذبهم إلى موضوع الخطبة بعقل مقتنع مقدما بأن الذي يخاطبهم صاحب أفضال بالغة العظم، ولا يقلل من عظم هذه الأفضال ما يقدمونه له وللإسلام.
(١) صحيح البخاري المغازي (٤٣٣٠)، صحيح مسلم الزكاة (١٠٦١)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٤٢).