للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذا التمهيد ليس من باب المن والتفضل، وإنما هو سرد حقائق واضحة دعت إليها ضرورة التخاصم أو التجادل، وبدون هذا التمهيد يصعب الوصول إلى إقناع بعض السامعين، خاصة في هذا الوقت المضطرب الذي يموج بالفتنة، ومعظمهم حينئذ كان يربط بين نصيبه من الغنيمة ومنزلته في الإسلام وفي نفس الرسول.

٢ - وحتى يقتلع النبي - صلى الله عليه وسلم- كل جذور الفتنة، وحتى يسد كل منابع الوساوس والهواجس في نفوس الأنصار فقد آثر أن ينهج معهم من حيث الشكل المظهري منهج الخصومة. فقد صورهم في صورة الخصم الذي يدافع عن حقه وعن وجهة نظره، ولكن حكمة الرسول البالغة السمو تجعله ينوب عنهم في هذه الخصومة، مدافعا عنهم، وعارضا وجهة نظرهم كاملة، مع أن المفروض أنها خصومة ضده هو. وذلك ليقتلع من نفوسهم كل الوساوس والشكوك. فصورهم في صورة الخصم الذي يشحذ كل فكره ليستجمع حججه وأسلحته في الخصومة وأخذ هو يعرض هذه الحجج على طريقة العرب في المفاخرة والمنافرة.

وقد آثر النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبهم بالمألوف والمتداول في المجتمع، حتى يعطيهم حقهم كاملا في الخصومة، وحتى يشعروا بأنهم أدلوا بكل ما لديهم من حجج.

وهذا الوضع هو الذي يريح نفوسهم، ويستل كل ما فيها. ولذلك بعد أن عرض النبي فضله عليهم فيما ساقه من التمهيد، كأنه انتظر أن ينوب عنهم شخص يوضح موقفهم في الخصومة، بأن يعرض فضلهم على الرسول وعلى الإسلام. ولما لم يتقدم أحد، قال - صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار (١)» يعني ألا تردون علي كما يرد الخصم على خصمه؟ ولكن الأنصار أبوا أن يقفوا من النبي موقف الخصم، وإذا كل ردهم «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل (٢)» ولكن حكمة الرسول ونفاذ بصيرته تعلم أن هذه إجابة الإيمان، وإجابة العقل والمنطق، ثم تبقى بعد ذلك في النفس الأمارة بالسوء وساوسها. فلا بد أن يبرز هذه الوساوس على السطح، وذلك بإبراز العوامل أو الأسباب التي تستند إليها.

ولذلك ناب هو عنهم بأبلغ ما كان يمكن أن يتمثلوا به هم، فقال لهم ما مضمونه: إنكم تستطيعون أن تقولوا وأنتم صادقون: إن أهلك وقومك وأقرب الناس منك كذبوك فصدقناك نحن، وأتيتنا مستضعفا مغلوبا فنصرناك، وأتيتنا طريدا فآويناك وأسبغنا عليك الأمن والقوة، وجئتنا فقيرا محتاجا فساعدناك ومسحنا عنك الفقر والفاقة.

ولنا أن نتصور الأنصار وقد أخذت منهم الدهشة، وبلغ منهم الذهول، فهم لو وقفوا من الرسول موقف الخصومة، ومهما حشدوا من حجة، فلن يأتوا بمثل هذه الحجج أو لن يزيدوا عليها في أقصى الفروض.


(١) صحيح البخاري المغازي (٤٣٣٠)، صحيح مسلم الزكاة (١٠٦١)، مسند أحمد بن حنبل (٤/ ٤٢).
(٢) مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٧٧).