وهناك فوق ذلك أمر يملأ نفوسهم عجبا، ويأخذ على قلوبهم وعقولهم كل أقطارها إعجابا بخلق الرسول وحبا له، وهو أن الرسول يشعر بأن الأنصار لهم كل هذه الأفضال والأنعم عليه، فأقصى ما قد يشعر به الأنصار أنهم أحسنوا إلى الرسول وإلى الإسلام، أما هذا الفيض العظيم الذي يعدده الرسول من أفضالهم عليه فهذا ما لم تتحدث به ألسنتهم وإن كان أقصى أمانيهم أن يكون في نفس الرسول شعور بأن لهم هذا الفضل. ومن الواضح حينئذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم- بهذا العنصر قد جعل نفوس الأنصار وقلوبهم في أقصى حالات التهيؤ والانشراح لكل ما يقول، فقد أذهب كل ما فيها من موجدة. وإذا كان هناك بقية من وساوس فإن أي قول يصدر منه بعد ذلك في معالجة هذه الوساوس سيكون مقبولا. وهذا هو عنصر (التهيؤ).
٣ - وتأتي بعد ذلك مناقشة الموضوع الأساسي للخطبة، وقد أصبحت نفوسهم بالعنصر السابق مستعدة كل الاستعداد لكل ما يقوله الرسول حول هذا الموضوع وأما النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد جعل المناقشة شاملة على إيجازها، ومستوعبة للموضوع من كل جوانبه كما يلي:
أ- غضب الأنصار لقلة نصيبهم من الغنائم، وتوهمهم أن ذلك قد يصغر من شأنهم بين الناس، وقد ناقش النبي هذا الجانب بعرضه في صورة أدبية تجسده في النفوس، حيث شبه كل هذه الغنائم والأموال التي يتزاحمون عليها بشيء من النبات الضعيف الصغير وهو اللعاعة بضم اللام، مشيرا إلى أن متاع الدنيا كله تافه يسير لا ينبغي أن يكون موضع التزاحم والتخاصم. ثم بين الحكمة في إيثار بعض القبائل الأخرى على الأنصار في أنصبة الغنائم، وهي " تألفت بها قوما ليسلموا " أما الأنصار فهو واثق من إسلامهم، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أن يعطيهم ما يستميلهم به، ولذلك يقول لهم:" ووكلتكم إلى إسلامكم " فقد ساق لهم النبي في هذه الفقرة ثلاثة معان: أحدها تفاهة متاع الدنيا مهما كثر، والثاني أن كثرة العطاء ليست دليلا على علو الشأن، بل على العكس دليل على عدم الثقة في إيمان معطاها. الثالث أن النبي مطمئن إلى إسلام الأنصار، ولذلك لم يكن في حاجة إلى أن يتألف قلوبهم.
ب- خوف الأنصار من أن يتركهم النبي ويقيم في مكة موطنه الأصلي. فقد سرى الهمس، وتزايدت وساوس الأنصار ومخاوفهم من أن النبي وقد فتح مكة قد يترك المدينة ويعود إليها حيث منبته وأهله ومرتع صباه وشبابه. وهذا المعنى جانب أساسي من الموضوع الذي تعالجه الخطبة.
وهي تحسم هذا المعنى بأسلوب لا تعرف الخطابة أشد منه وقعا في النفوس وأبلغ منه تغلغلا في