للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المشاعر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لا يكتفي بأن يقول لهم: إنه سيرجع معهم إلى المدينة، وإنما يقارن كسب الأنصار في رجوعه معهم بكسب غيرهم من شياه الغنائم وإبلها، حيث يقول في صورة السؤال الذي يجسد هذا المعنى في نفوسهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ (١)».

وبهذا تكون الخطبة قد حسمت الموضوع بصورة تقلب كيان تفكير الأنصار كله، حيث بينت لهم من حيث الغنائم أن أنصبة الغنائم لعاعة تسخر لخدمة الإسلام، فلا ينبغي للمؤمن أن يجعلها هدفا وغاية لجهاده في سبيل الله ومن حيث الإقامة بينت لهم الخطبة عظم نصيبهم إذا قارنوا استئثارهم بشخص النبي في إقامته بينهم بنصيب غيرهم من الإبل والغنم.

ج- وهو لا يكتفي باقتناعهم بأنهم كانوا مخطئين في ظنونهم وهواجسهم، وأنهم من تلقاء أنفسهم سيعودون إلى ما كانوا عليه من حبهم للنبي وتفانيهم في هذا الحب بل يخشى أن يظن الأنصار أن موقفهم هذا قد يغير قليلا أو كثيرا من حب النبي وإيثاره لهم فيؤكد لهم بأكثر من صورة أنه لم يغير رأيه فيهم، ولا موقفه منهم، بل يكشف لهم عن جوانب من حبه لهم لعله لم يكشفها لهم قبل اليوم بهذه الصورة أو بهذه الدرجة من الوضوح، فيقول لهم: «فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار (٢)» فماذا يتمنى الأنصار أبعد من هذا، وأي حلم يراود أمانيهم أعظم من أن الرسول يتمنى أن يكون واحدا منهم لولا أن الهجرة في سبيل الله منزلة رفعها الله وهو فيها، فلا يملك خفض شيء رفعه الله. وأي خيال في الأماني والأحلام راود نفوسهم أعظم من أنهم لو كانوا في طريق والناس جميعا في طريق آخر، فالنبي يترك طريق الناس جميعا ويختار طريقهم؟

د- بل إن الخطبة تراعي أبعد جوانب الموقف واحتمالاته فقد يتوهم بعضهم أن هذا الرضا من جانب النبي منصب على الرجال الكبار من الأنصار الذين تربطهم بالنبي صلة مباشرة وثيقة، وأن الشباب والصغار قد لا يكونون في حسبان النبي أو فيمن يعنيهم بهذه الخطبة، فيبين لهم النبي ضمنا أنهم أيضا في حسبانه وفيمن يعنيهم، بل تذهب الخطبة إلى أبعد الاحتمالات في كسب القلوب، حيث تراعي جيلا قادما من الأنصار لم يوجد بعد. هذا الجيل سينقل إليه هذا الموقف من أجداده الأنصار، وقد يقولون أو يقال لهم لعل النبي وجد في نفسه شيئا من موقف آبائكم أو أن موقف أجدادكم كان كذا وكذا، فالخطبة قد تشير إلى مراعاة هذا المدى البعيد بالإضافة إلى كسب قلوب الأنصار أنفسهم بالدعاء لأبنائهم وأبناء أبنائهم، فيقول لهم - صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار (٣)».


(١) صحيح البخاري المغازي (٤٣٣٣)، صحيح مسلم الزكاة (١٠٥٩)، مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٢٤٦).
(٢) صحيح البخاري التمني (٧٢٤٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٤١٩).
(٣) مسند أحمد بن حنبل (٣/ ٧٧).