فمن قائل: بالتناسخ، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عند ما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال. ومن قائل: إنها إذا فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذاتها أو ما به شقوتها.
ويسود شعور عام لدى البشرية كلها بحياة بعد هذه الحياة الدنيا التي يعيشها الناس، وأن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل ينتهي عمره ويموت ثم يكون حيا باقيا في طور آخر وإن لم يدرك كنهه، ولا يستثنى من ذلك سوى الدهرين الذين قال الله تعالى عنهم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ}(١).
وهي نظرة سطحية قصيرة لا تتجاوز ظاهر الأمر الذي يشهدونه، ولا تبحث عما وراء ذلك من أسرار، فمن أين جاءت إليه الحياة الدنيا؟ وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم؟ إن هذا ظن غامض، لا يقوم على تدبر، ولا يستند إلى علم، ولا ينظر إلى ما وراء ظاهرة الحياة والموت من سر.
وإذا كنا في عالم الشهادة نستعمل عقولنا في تقويم معيشتنا القصيرة الأمد، ونتلقى من العلوم ما ينمي أفكارنا، ويعيننا على استقامة حياتنا، وإدراك رغباتنا، ثم لا نلبث حتى نجد هذا غير كاف في الاستقامة على المنهج الأقوم، فنعود إلى تعديل هذه الأفكار وتصحيحها مرة بعد أخرى، إذا كنا في عالم الشهادة كذلك فكيف تصل عقولنا وأفكارنا إلى إدراك ما في عالم الغيب؟ وإلى معرفة ما يكون فيه، وكيف تكون الحياة الجديدة الباقية؟ إن طرائق النظر والاستدلال الفكري لا تقود الناظر إلى العلم بذلك علم اليقين حتى يعتقده ويؤمن به، وهو مجهول لديه، والنظر في المعلومات الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة.
فاقتضت حكمة الصانع الحكيم الذي خلق الإنسان وعلمه البيان أن يصطفي من عباده من يشاء، وأن يخصهم بصفات تميزهم، وإن يوحي إليهم من أمره تعالى ما يشاء أن يعتقده العباد، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع تحدد