ألهمت سبل عيشها، وكفاها هذا الإلهام مدة صغرها على قصرها، ولازمها ذلك بعد في حياتها، فإن الإنسان يولد ولا قدرة له على الحركة، وهو في حاجة إلى غذاء جسمي، وتعهد نظافته، وتفقد أحواله للمحافظة على سلامته، والعمل على راحته، ويستمر هذا فترة طويلة من الزمن تمتد عدة سنين، حتى يستطيع أن يخدم نفسه.
وإذا شب عن الطوق وقوي ساعده، لازمه العجز عن الوفاء بمطالبه، فلا يستطيع وحده أن يزرع ويحصد، وأن يغزل وينسج ويحيك ثيابه ليلبس، وأن يصنع طعاما يقوته ومسكنا يؤويه، وكلما تطورت حياته اتسعت مطالبه، وتشعبت حاجته، فلا يقف في تعاونه مع غيره عند أهله وعشيرته كما كان حاله في عصره الأول، بل زادت دائرة هذا التعاون، وعاش في مجتمع أكبر، يبذل فيه كل فرد ما عنده من قدرات للجماعة، وتبذل الجماعة لكل فرد فيها ما لديها من ثمار كدحها ونتاج أيديها وعقولها.
ويوشك العالم اليوم في العصر الحديث أن يكون مجتمعا واحدا لو استطاع، لتداخل مصالحه، وترابط مطالبه، واتساع حاجاته.
وليست الحياة الإنسانية كحياة النحل والنمل يكفي فيها الإلهام الغريزي لانتظامها، وتحقيق تعاون أفرادها، والقيام بوظائفها، فإن الحياة الإنسانية تتميز بالعقل والتفكير والتدبير والاختيار، فلا يجدي فيها هذا الإلهام، ولا يستقيم أمرها إلا بانتظامها في سلك واحد، عن فكر ونظر.
وفي الإنسان غرائز شتى، كحب النفس، وحب التملك، وحب السيطرة، وهذه الغرائز تصطرع فيها القوى البشرية، ويسعى كل إنسان في المجتمع البشري إلى أن يكون حظه أوفر من غيره، وأن يستأثر بالمنفعة واللذة، وأن تكون له الغلبة والقهر، وقد نشأ من ذلك التخاصم والتشاجر والعداء والمقاتلة في حياة الأفراد وحياة الأمم، ويشتد التنافس في هذا المضمار فتضيع الحقوق وتهدر الحرمات وتكون السيطرة للأشد الأقوى، ولا يقف الصراع البشري عند حد، بل يتتابع في حياة كل قبيل بكل جيل، وهذا يجعل الحياة الإنسانية جحيما لا يطاق، ولا علاج لذلك إلا أن يكون هناك ضوابط سلوكية محكمة وموازين للحق ثابتة، تقيم العدل