للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟ قالوا: اللهم نعم. فقال: أنشدكم بالله والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشترى بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة: فاشتريتها من صلب مالي (١)».

فهذه الأحاديث والآثار تبين لنا هديه صلى الله عليه وسلم في الاستملاك للمنافع العامة، فهو يرغب صاحب الملك المراد تخصيصه لمنفعة العموم بما سيحصل عليه من الأجر، إذا هو تنازل عن حقه لمصلحة العامة، فإن كان له عذر من فقر أو حاجة، بأن كان ملكه هذا مصدرا لرزقه عرض الأمر على الملأ، ودعا أصحاب المال إلى الإنفاق في سبيل الله، وبين لهم ما ينتظرهم من جزاء في الجنة إذا هم فعلوا ما أرشدهم إليه، وفي موضع مسجده صلى الله عليه وسلم لم يقبل تنازل أربابه حينما قالوا له: "لا نطلب ثمنه إلا من الله عز وجل" لأنه كان ملكا ليتيمين، واليتيم يجب معاملته دائما بما هو خير، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (٢) والنبي عليه الصلاة والسلام كان خلقه القرآن، لذا نراه يأمر أبا بكر الصديق رضي الله عنه بأن يدفع عشرة دنانير ثمنا لما أخذه.

وإذا كانت البقعة المراد تخصيصها للمنفعة العامة، ليست ملكا لأحد بعينه، ولكنها حريم لعامر يستعملها المجاورون لها، ويتوسعون بها ويدفنون موتاهم بناحية منها، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرهق أصحابها ويأخذها منهم قهرا، بل يندبهم إلى ما يريد، ويطلبها منهم بالحسنى، لأنه عليه الصلاة والسلام كان رحيما بأمته، رفيقا بهم في كل الأحوال، روى ابن زبالة عن عباس بن سهل عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بني ساعدة فقال: إني قد جئتكم في حاجة، تعطوني مكان مقابركم، فأجعلها سوقا وكانت مقابرهم ما حازت دار ابن أبي ذئب إلى دار زيد بن ثابت، فأعطاه بعض القوم، ومنعه بعضهم، وقالوا: مقابرنا ومخرج نسائنا، ثم تلاوموا، فلحقوه وأعطوه إياه، فجعله سوقا».


(١) سنن الترمذي المناقب (٣٧٠٣)، سنن النسائي الأحباس (٣٦٠٨).
(٢) سورة الإسراء الآية ٣٤