ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى» (١)، ولعل هذا التورع المحمود المتمشي مع الضوابط الشرعية للفتوى، هو الذي جعل الفتوى الصادرة عن علماء الشريعة عبر عصور الإسلام الزاهرة متميزة بمزايا عديدة، تظهر بجلاء كمال هذه الشريعة وشمولها ومحاسنها، وصلاحيتها لكل الأزمنة والأمكنة.
هذا، وقد زخر تاريخ هذه الأمة بكوكبة من علماء الشريعة، يعدون بحق منارات شامخة في سماء الاجتهاد والفتوى، كما ازدان عصرنا الحاضر بنخبة مميزة من العلماء الأفذاذ والمفتين المبرزين، الذين يعدون امتدادا للأسلاف الصالحين من المفتين المجتهدين؛ لذا فإنه من الأهمية بمكان إبراز منهج هؤلاء الصفوة، وتجلية أصولهم في الفتوى، ودراسة حياتهم العلمية والعملية، لما له من الأثر البالغ على ساحات العلم والعلماء عامة، والمعنيين منهم بالفتوى خاصة.
لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، وهبت أعاصير المحن، وكثرت النوازل والمستجدات، وتسارعت التطورات والمتغيرات، وتطاول فيه كثير من الرويبضة على مقامات الفتوى، وتجرؤوا على التحليل والتحريم ومدوا للإفتاء باعا قصيرة؛ فكم نسمع من فتاوى لا زمام لها ولا خطام، تشجي الحلق، وتشقي الخلق، لا يظهر فيها بهاء الشريعة، ولا تسلم من الشطحات الشنيعة؟ مما يؤكد الإفادة من منهج
(١) أخرجه الدارمي في «السنن» (١٣٧)، وابن سعد في «الطبقات» (٦/ ٧٤، ٧٥).