ومما تقدم يظهر أنه لا يوجد تعارض بين الأحاديث والآثار، وهذا أولى من حمل بعضها على الحقيقة وبعضها على مجاز التشبيه بدون دليل كما في فتح القدير، حيث إن بعض تلك الآثار ما يأتي أن يكون تشبيها كقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطبته " نزل تحريم الخمر وهو من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل " فهل يمكن أن تعني نزل تحريم ما يشبه الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والشعير. . . إلخ. اللهم إلا أن يكون من قبيل الجمع بين الحقيقة والمجاز، وهو ما لا يجيزه الحنفية.
كما أورد بعضهم على هذه الأحاديث والآثار بأنه يحتمل أن ما فيها بيان للاسم الشرعي لا اللغوي. وهذا التعقيب ضعيف ولا يغني عن الحنفية شيئا؛ لأنهم لا يقولون إن المسكر من غير عصير العنب داخل في عموم الآية شرعا.
والأحاديث الصحيحة في تحريم قليل ما يسكر كثيرة من أي مادة اتخذ، ووجه ضعفه أن لفظ الخمر ليس اسما لعمل شرعي لم يكن معروفا قبل الشرع. فلما جاء به الشرع أطلق عليه كلمة من اللغة تتناوله بطريق المجاز اللغوي، بل هو اسم لنوع من الشراب يمتاز عن سائر الأشربة بالإسكار، وهذه التسمية معروفة عند العرب قبل نزول ما نزل من آيات تحريم الخمر، وقد نزلت آية البقرة جوابا عن سؤال سألوه عن الخمر ولم يقل أحد من مفسري السلف ولا الخلف ولا خطر على بال أحد أنهم سألوه عليه الصلاة والسلام عن خمر عصير العنب خاصة وأنها هي المقصودة بالجواب بأن فيها إثما كبيرا ومنافع للناس، وأن غيرها ألحق بها في التحريم بطريق القياس أو بتفسير النبي والصحابة للخمر الشرعية، وقد ذكر المفسرون في أسباب النزول أنه لم يشق عليهم تحريم شيء كما شق عليهم تحريم الخمر، وأن بعضهم كان يود لو يجد مخرجا من تحريمها بآية المائدة كما وجد المخرج من آية البقرة الدالة على تحريم الخمر بتسميتها إثما مع تصريح القرآن قبل ذلك بتحريم الإثم، ولأجله تركها بعضهم وتنصل منه آخرون بتخصيص الإثم بما كان ضررا محضا لا منفعة فيه، والنص قد أثبت أن في الخمر منافع وقد أهرقوا ما كان عندهم من الخمر عند الجزم بالنهي عنها، وقلما كان يوجد عندهم من خمر العنب شيء، فلو كان مسمى الخمر في لغتهم ما كان مسكرا من عصير العنب لما بادروا إلى إهراق ما كان عندهم.