وهنا تأتي لفتة تربوية حازمة يعالج الرب بها عدم انتفاعهم بالذكرى بعد ظهور حجتها وأخذهم فيها بما يزيل القلق والهوى، فيقول لرسوله {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} أي: أعرض عن تكذيبهم ولا يصدنك عن الاستمرار في التذكير فإنه تكذيب لا حجة معه ولا وجه له، فإني لم أخلق الخلق إلا لعبادتي، ولذلك أمره بالمضي في التذكير بعد هذه الآية بقوله:{وَذَكِّرْ} ثم يقول فيهم مهددًا ومتوعدًا: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وعلاقة الآية التي ندرسها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} بعامة سياق سورة الذاريات، أن المتأمل يرى فيها تلخيصًا بديعًا دالاً لجميع ما ورد في سياق السورة، ووجه ذلك: أن هذه الكلمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}. فيها تعليل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يذكر بها والرسل قبله الذين قص بعضهم في السورة؛ فلأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه بعث إليهم الرسل تخاطب بعبادته وتأمر بالفرار إليه.
وفيها تعليل خلق يوم الدين والجزاء فيه، فلأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه رتب على عبادته الجزاء، وخلق الجزاء لذلك؛ ولأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه أهلك الأمم الذين عتوا عن أمر ربهم، وتوعد من فعل فعلهم بالمصير الذي أصابهم؛ ولأن الله إنما خلق الخلق ليعبدوه وعد من أجابه لمراده وأتى بالواجب عليه بالنعيم في الآخرة