للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يناديهم ويناويهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذلا أو عجزا: وهذا - على الإطلاق - جاهلية محضة، وهي من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا، وقد ذكر أنه إنما كان سبب كثير من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب، إلى نحو هذا، وكذلك سبب دخول الترك والمغول دار الإسلام، واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان كان سببه نحو هذا.

ومن أذل نفسه لله فقد أعزها، ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم، ومن اعتز بالظلم من منع الحق وفعل الإثم فقد أذل نفسه وأهانها، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (١)، وقال تعالى عن المنافقين: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (٢)، وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (٣) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (٤) {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (٥).

وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما أن ينصره، وأن لا يثبت أنه مظلوم بمجود دعواه؛ فلطالما اشتكى الرجل وهو ظالم، بل يكشف خبره من خصمه وغيره، فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن، إما بالصلح أو حكم بالقسط وإلا فبالقوة.

وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء من قيس ويمن ونحوهم وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي، أو كانا جميعا غير ظالمين لشبهة أو تأويل لو غلظ وقع فيها بينهما: سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (٦)


(١) سورة فاطر الآية ١٠
(٢) سورة المنافقون الآية ٨
(٣) سورة البقرة الآية ٢٠٤
(٤) سورة البقرة الآية ٢٠٥
(٥) سورة البقرة الآية ٢٠٦
(٦) سورة الحجرات الآية ٩