للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت، فانظر كيف بدأ الانحراف عن الصراط السوي نتيجة للغلو بطريق التدريج، وذلك أنهم كانوا يتبركون بدعائهم، وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها زمنا طويلا إلى أن عبدوها باستدراج الشيطان لهم، ثم صارت سنة في الناس يهرم عليها الكبير، ويشب عليها الصغير إلى أن بعث الله فيهم نوحا - عليه الصلاة والسلام - فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى توحيد الله ونبذ عبادة ما سواه، فأصروا واستكبروا استكبارا، ولم يؤمن منهم إلا النزر اليسير.

وما كان عليه حال قوم نوح هي نفس الحال التي ارتكس فيها الناس بعد ذلك من الغلو ومجاوزة الحد، واتباع الهوى الذي أودى بالناس إلى عبادة غير الله - سبحانه وتعالى -، وأخطر هذه الأسباب هو الغلو الذي حذر الله منه في غير ما آية من كتابه.

والغلو هو مجاوزة الحد، وضابطه: تعدي ما أمر الله به بالزيادة فيه، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (١). وكذا قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (٢)، أي لا تتعدوا ما حد الله لكم.

وأهل الكتاب هنا: هم اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، ونحن كذلك كما قال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (٣)، والغلو كثير في النصارى، فإنهم غلوا في عيسى - عليه الصلاة والسلام - فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى - عليه الصلاة والسلام -، فحطوا من منزلته


(١) سورة طه الآية ٨١
(٢) سورة النساء الآية ١٧١
(٣) سورة هود الآية ١١٢