للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

* فريق منهم " يذهب إلى أن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعته.

هذه النظرية نادى بها أنصار مذهب (التطور التقدمي أو التصاعدي) الذي ساد في أوربا في القرن التاسع عشر في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عدد من العلماء (١) ".

* وفريق آخر " يقرر بالطرق العلمية بطلان هذا المذهب، ويثبت بالعكس أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشر، مستدلا بأنها لم تنفك عنها أمة من الأمم في القديم والحديث، فتكون الوثنيات إن هي إلا أعراض طارئة، أو أمراض متطفلة بجانب هذه العقيدة العالمية الخالدة.

وهذه هي نظرية (فطرية التوحيد وأصالته) التي انتصر لها جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلم النفس (٢) ". ولا نريد أن نطيل بذكر مناقشة هذا المذهب أو ذاك، فقد تولى هذه المناقشة أستاذنا الفاضل المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (الدين) ص١٠٣ - ١٠٨ بأسلوب شيق ومنطق بارع. وكلمة الفصل في هذا الموضوع هي قوله في نهاية المطاف:

" هكذا عجزت وسائل العلوم أن تقدم لنا بيانا شافيا يطمئن إليه القلب عن ديانة الإنسان الأول.

أما من أحب أن يسترشد بنصوص الكتب السماوية، فإنه سوف يجد فيها ما يشد أزر القائلين بأولية العقيدة الإلهية الصحيحة، لا في الغريزة فحسب {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (٣) بل في التطور الزماني كذلك، فهذه النصوص تنادي بأن الناس بدأوا حياتهم مستقيمين على الحق، مؤتلفين عليه، وأن الانحراف والاختلاف إنما جاء عرضا طارئا بعد ذلك {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (٤)، وأن استمرار هذا الاختلاف واتساع شقته إنما كان بتأثير الوراثة، وتلقين كل جيل عقيدته للناشئين فيه «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (٥)» إلى ذلك كله فإن الكتب السماوية متفقة على أن الجماعة الإنسانية الأولى لم تترك وشأنها، تستلهم غرائزها وحدها بغير مرشد ومذكر، بل تعهدتها السماء بنور الوحي من أول يوم، فكان أبو البشر هو أول الأفذاذ الملهمين، وأول المؤمنين الموحدين، وأول المتضرعين الأوابين (٦).

* * *


(١) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص ١٠٢.
(٢) المرجع السابق.
(٣) سورة الروم الآية ٣٠
(٤) سورة يونس الآية ١٩
(٥) صحيح البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين جـ٣ ص ٤٩١.
(٦) الدين للدكتور محمد عبد الله دراز ص ١٠٨.