للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (١).

أما لماذا اتحدت الشرائع السماوية في أصولها واختلفت في فروعها؟ فذلك لأن الأصول ثابتة لا تتغير بحال من الأحوال، فالله - سبحانه - هو الله بذاته وصفاته لا يتغير ولا يتحول أبدا، والرسل - في كل أمة - هم الرسل بما يجب لهم وما يجوز في حقهم، والكتب المنزلة - على مدى تاريخ الرسالات - هي الكتب المنزلة بما لها من قداسة وتعظيم، وكل ما جاء عن الله حق ثابت، وصدق لا ينقض، وأصول الأخلاق، والعبادات، والمعاملات، أدب متبع وطاعة ملتزمة، ولا يحيد عن ذلك إلا ضال هالك.

أما الفروع: فهي التي يعتريها التغير والتبديل، ويتناولها التعديل والتطوير، لأنها ليست أكثر من تطبيق للأصول في صور شتى، ولا بد لهذه الصور أن تختلف تبعا لاختلاف أحوال المكلفين واستعدادهم، وما يحيط بهم من عوامل وظروف كثيرا ما يكون لها دخل في التكاليف: فما يصلح لزمان قد لا يصلح لزمان آخر، وما يلائم طبيعة قوم قد لا يلائم طبيعة قوم آخرين.

وإذا نحن تتبعنا الأطوار التي مرت بها البشرية في مراحلها المختلفة، نجد أنها أشبه ما تكون بالأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته، فهو يبدأ بمرحلة الطفولة، ثم يتدرج في مراحل أخرى، ينمو فيها جسمه وعقله حتى يصل إلى مرحلة الرجولة الكاملة والنضج التام.

والبشرية في أول مراحلها بدأت كالطفل: فيها ما فيه من الضعف وعدم الاحتمال، فكان لا بد لها في هذه المرحلة من غذاء روحي يتناسب مع طبيعتها وقدرتها على تقبل هذا الغذاء وهضمه، ثم هي بعد ذلك تمر - متدرجة في مراتب الكمال - بمراحل متتابعة كل مرحلة تزيد فيها عن سابقتها نموا وقدرة وتقبلا، وهي في كل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى نوع من الغذاء الروحي يتناسب مع ما هي عليه من درجة النمو والقدرة والتقبل. . . وأخيرا تبلغ البشرية تمام نضجها وغاية رشدها فتحتاج في هذه المرحلة الأخيرة إلى غذاء روحي يلائمها كما ونضجا.

هذا الغذاء الروحي الذي أمد الله به البشرية في أطوارها ومراحلها المختلفة هو الدين، وحملة هذا الدين إلى البشرية هم الأنبياء والمرسلون، ومجموعة هذه الرسل - كما صورهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حديث له - بناة بيت واحد يؤسس سابقهم للاحقهم، ويشيد لاحقهم على أساس سابقهم (٢) ". .

صورهم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا في حديث له فقال: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة. قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (٣)».


(١) سورة المائدة الآية ٤٨
(٢) الإسلام عقيدة وشريعة للمرحوم الأستاذ الشيخ محمود شلتوت ص ٣٧.
(٣) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، واللفظ لمسلم.