للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك.

ولو كان الأصل فيها الحظر والفساد، إلا ما أباحه الشرع لم يجز أن يؤمر بها مطلقا ويذم من نقضها وغدر مطلقا، كما أن قتل النفس لما كان الأصل فيه الحظر إلا ما أباحه الشرع أو أوجبه، لم يجز أن يؤمر بقتل النفوس ويحمل على القدر المباح، بخلاف ما كان جنسه واجبا، كالصلاة والزكاة، فإنه يؤمر به مطلقا. وإن كان لذلك شروط وموانع، فينهى عن الصلاة بغير طهارة، وعن الصدقة بما يضر النفس ونحو ذلك. كذلك الصدق في الحديث مأمور به، وإن كان قد يحرم الصدق أحيانا لعارض ويجب السكوت أو التعريض.

وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به، فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.

وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سلمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم (١)» وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.

وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما (٢)» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وروى ابن ماجه منه الفصل الأول، لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة، وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به. فلعل تصحيح الترمذي له بروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضا عن محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: «الناس على شروطهم ما وافق الحق»، وهذه الأسانيد - وإن كان الواحد منها ضعيفا - فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضا.

وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله ولا يحرم ما أباحه الله، فإن شرطه حينئذ يكون مبطلا لحكم الله، وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله، وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، وعدم الإيجاب ليس نفيا بالإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الأقباض ما لم يكن واجبا، ويباح أيضا لكل


(١) سنن أبو داود الأقضية (٣٥٩٤)، مسند أحمد بن حنبل (٢/ ٣٦٦).
(٢) سنن الترمذي الأحكام (١٣٥٢)، سنن ابن ماجه الأحكام (٢٣٥٣).