النظرة إلى التأريخ ووظيفته وتفسيره، لدرجة أن " أناتول فرانس " يبالغ فيسمي الفترة التي ظهر فيها " فولتير ""عصر فولتير "، ويبالغ أكثر فيقسم تاريخ الفلسفة إلى عصور أربعة هي: عصر سقراط، وعصر هوراس، وعصر رابلين، وعصر فولتير!!
والحق أن ابن خلدون هو المفتاح الكبير الواضح القسمات والمعالم، والمتكامل الرؤية والمنهج في قضية تفسير التأريخ.
بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن الكتابة التاريخية ينتظمها عصران:
- عصر ما قبل ابن خلدون.
- عصر ما بعد ابن خلدون.
ومهما وجدت نظرات متناثرة في تفسير التأريخ قبل ابن خلدون، أو وجدت كتابات سردية تقليدية بعد ابن خلدون، فإنه من الناحية الرسمية - على الأقل- يعتبر ابن خلدون مفرق طريق بين مرحلتين، وليس ذلك في الفكر التأريخي الإسلامي فحسب، بل في الفكر التأريخي الإنساني كله.
وليست هذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون رأيا عنصريا، أو عاطفيا، بل هي حقيقة اعترف بها كبار فلاسفة التاريخ الأوربيين وسجلوها في شهادات صريحة واضحة. فإن أكبر مفسر أوربي للتأريخ في العصر الحديث، وهو الأستاذ " أرنولد توينبي " يتحدث عن ابن خلدون في مواضع كثيرة من كتابه (دراسة للتأريخ)، ويفرد له في المجلد الثالث سبع صفحات (٣٢١ - ٣٢٧)، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (٨٤ - ٨٧). وهو يقرر أن ابن خلدون " قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ هي بلا مراء أعظم عمل من نوعه ابتدعه عقل في أي مكان أو زمان "" المجلد الثالث ص ٣٢٢ "(١) وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها: " إنه لم يستلهم أحداث السابقين، ولا يدانيه أحد من معاصريه، بل لم يثر قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتأريخ العالمي قد تصور وصاغ فلسفة للتاريخ تعد بلا شك أعظم عمل من نوعه ".