فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {أنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ) {البقرة: ٢٦٧) فَهِيَ عَامَّةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ دعوى الإضمار فيها، فأما أبو حنيفة يقول إلا الفضة وَنَحْنُ نَقُولُ إِلَّا مَا يُقْتَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْإِضْمَارَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَتَعَارَضَا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَوَاتِ شَيْءٌ يَخُصُّهُ، وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَنْفَصِلُ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: ١٤١) وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ أَيْضًا بِجَوَابَيْنِ آخَرِينَ:
أَحَدُهُمَا: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الزَّكَاةِ مِنْ صَدَقَةٍ يَتَطَوَّعُ بِهَا يَوْمَ الْحَصَادِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِإِيتَاءِ حَقِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَنَا بِإِخْرَاجِهِ يَوْمَ حَصَادِهِ، وَالزَّكَاةُ لَا يجب إخراجها يوم الحصاد إلا بعد الجز وَالدِّيَاسِ فَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَهَذَا أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّكَاةِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَّقَ الزَّكَاةَ بِمَا كَانَ مِنْهُ مَحْصُودًا، وَالْحَصَادُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الأشجار والقثاء والخيار، فإن قبل الحصاد هو الاستعمال قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدينَ) {الأنبياء: ١٥) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أحصدهم حصيداً حتى تلقني عَلَى الصَّفَا " وَإِذَا كَانَ الْحَصْدُ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ صار تقدير الآية وآتو حقه يوم اسْتِئْصَالِهِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَرْعٍ مِنْ غَيْرِهِ، قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَصَادِ فِي الزُّرُوعِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي غيره، يقال حصد الزرع وجذّ التمر، وقطف العنب وجد الْبَقْلُ وَجُنِيَ الْفَاكِهَةُ قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ ... إِذْ كُلُّ جانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ)
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
(إِذَا لَمْ يكن فيكن ظل ولا جناً ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللَّهُ مِنْ شَجَرَاتِ)
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّنَا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَصَادَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الثِّمَارَ لَا تُسْتَأْصَلُ بَلْ تُتْرَكُ أُصُولُهَا وَتُجْنَى ثِمَارُهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا تَكَافَأَ النِّزَاعُ فِيهَا وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا، فَأَمَّا قَوْلُهُ فِيمَا سَقَتِ السماء العشر فجوابه كجواب الآية الأولى فنقول قَدْ رَوَاهُ مُعَاذٌ تَامًّا فَقَالَ: وَأَمَّا الْبِطِّيخُ وَالْقِثَّاءُ وَالْخَضْرَاوَاتُ فَعَفْوٌ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، فَكَانَ هذا مخصصاً لعموم ما تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَالْمَعْنَى فِيهِ: إِنَّهُ مُقْتَاتٌ فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْخَضْرَاوَاتُ لَمَّا كَانَتْ غَيْرَ مُقْتَاتَةٍ شَابَهَتِ الْحَشِيشَ والحطب فلم تجب فيها الزكاة.