والثاني: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا نَابَ أَحَدَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ " فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّنْبِيهَ بِالتَّسْبِيحِ دُونَ الْكَلَامِ
وَهَذَا الْخَبَرُ عُمْدَةُ الْمَسْأَلَةِ، وَلِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ فَوَجَبَ أَنْ يُبْطِلَهَا قِيَاسًا عَلَى مَا لَا يُصْلِحُهَا
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِحَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ مَعَ أبي حنيفة، وَقُلْنَا: إِنَّ كُلَّهُمْ نَاسٍ لِكَلَامِهِ غَيْرُ عَامِدٍ لِاعْتِقَادِهِمُ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ بَاطِلَةٌ إِذَا قال لإمامه قد نسيت صلاته أَوْ قَصُرَتْ كَقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ، قِيلَ: لِاسْتِقْرَابِ حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ النَّسْخِ الَّذِي كَانَ مُجَوَّزًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِدِلَالَةٍ قَاطِعَةٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ، لِأَنَّ النَّسْخَ هُوَ: رَفْعُ مَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ إِمَّا قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، وَلَيْسَ جَوَازُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ شَرْعًا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْحَابٌ لِلْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا أَنَّ شُرْبَ النَّبِيذِ مُبَاحٌ لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، وَلَكِنِ اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِبَاحَةِ فَجَازَ رَفْعُهُ لِمُحْتَمَلٍ
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا نَسْخٌ، لَعَمْرِي، وَلَكِنْ إِنْ لَمْ يَقَعِ النَّسْخُ لِمُحْتَمَلٍ وَإِنَّمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَنْسُوخًا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعِينَ " ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِأَصْحَابِهِ جَالِسًا فِي مَرَضِهِ وَصَلَّى مَنْ خَلْفَهُ قِيَامًا، فَعُلِمَ بِهَذَا الْفِعْلِ تَقْدِيمُ النَّسْخِ
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي صَلَاتِهِ لَهُ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَاسِيًا لِكَلَامِهِ سَاهِيًا عَنْ صَلَاتِهِ، فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ نَاسِيًا لِصَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ، وَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَلِأَنَّهُ إِنْ عَمَدَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَقْصِدْ إِيقَاعَهُ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ نَاسِيًا
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا بِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ الكلام فيها، لقرب عهد بِالْإِسْلَامِ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ فَصَلَاتُهُ جائزة، وعليه سجود السهو
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ عَامِدًا لِكَلَامِهِ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ جَاهِلًا بِحُكْمِ الْكَلَامِ هَلْ يُبْطِلُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا؟ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ كَمَنْ زَنَى عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ بِإِيجَابِ الْحَدِّ فِيهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ