وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْغِنَى وَالتَّوَسُّطِ فَسَوَّى بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُفَاضِلْ.
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَجَعَلَهَا مُعْتَبَرَةً بعددهم، وليس يَعْتَبِرهَا بِيَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ.
وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ جِزْيَةَ نَصْرَانِيٍّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهُ أَبُو مَوْهِبٍ دِينَارًا، وَلَمْ يَذْكُرْ يَسَارَهُ وَلَا إِعْسَارَهُ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، وَلَمْ يُفَضِّلْ فَدَلَّ عَلَى التَّسَاوِي.
وَمِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِالدِّينَارِ كَالْمُقِلِّ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أنَ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُقِلِّ جَازَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِهِ جِزْيَةُ الْمُكْثِرِ كَالْأَرْبَعَةِ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ دَمِهِمَا وَاحِدَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ جِزْيَتُهُمَا وَاحِدَةً.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا فَعَلَهُ عُمَرُ، فَهَذَا أَنَّهُ قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ عَنْ مُرَاضَاةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ لَا يُنْكِرُ مِثْلَهَا إِذَا فعلوه.
وقياسهم عَلَى الزَّكَاةِ مُنْتَقصٌ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ الَّتِي لَا تَزِيدُ زِيَادَةَ الْمَالِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الزَّكَاةِ وجوبها في عين المال، فجاز أن تختلف بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَالْجِزْيَةُ فِي الذِّمَّةِ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ كَالْأُجْرَةِ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ كَالْإِجَارَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ، فَهُوَ أَنَّ الْخَرَاجَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أُجْرَةٌ عَنْ أَرْضٍ ذَاتِ مَنْفَعَةٍ، فَجَازَ أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ وَالْجِزْيَةُ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ بِاخْتِلَافِ الْمَالِ، فَلَمْ يَتَفَاضَلْ بِتَفَاضُلِ الْمَالِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِالْهُدْنَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْهُدْنَةَ لَمَّا جَازَ أَنْ تَكُونَ مَوْقُوفَةً عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي عَقْدِهَا بِمَالٍ وَغَيْرِ مَالٍ جَازَ عَقْدُهَا عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِي قَدْرِ الْمَالِ، وَالْجِزْيَةُ لَا تَقِفُ عَلَى رَأْيِهِ فِي عَقْدِهَا بِغَيْرِ مَالٍ، فَلَمْ تَقِفْ عَلَى رَأْيِهِ في تقدير المال
[(مسألة)]
: قال الشافعي: " فِي كِتَابِ السِّيَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْدِي فِي أَصْلِهِ وَأَوْلَى عِنْدِي بِقَوْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا الْمُقِلُّ الَّذِي يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ، وَلَا يَمْلِكُ مَا سِوَاهَا، فَهِيَ عَلَيْهِ وَاجِبَةٌ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهَا، فَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَمْلِكُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ، فَضَرْبَانِ: