[(فصل: جواز الاجتهاد في زمن الأنبياء)]
:
وَأَمَّا جَوَازُ اجْتِهَادِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي زَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ غَائِبًا عَنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى سُؤَالِهِ فِي وَقْتِهِ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ دَاعِيَيْنِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَوَالِيَيْنِ عَلَى الصَّدَقَاتِ، فَيَجُوزُ اجْتِهَادُ ذِي الْوِلَايَةِ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِأَنَّ مُعَاذًا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ فَاسْتَصْوَبَهُ وَحَمِدَهُ. وَسَوَاءٌ اجْتَهَدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِذْ قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ سُؤَالُهُ مُسْتَحَبًّا، وَيَكُونُ مَا اجْتَهَدَ فِيهِ أَثَرًا مَتْبُوعًا مَا لَمْ يَرِدْ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خِلَافُهُ كَمَا اتَّبَعَ مُعَاذٌ فِي قَوْلِهِ: " أَيُّمَا رَجُلٍ انْتَقَلَ مِنْ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ إِلَى غَيْرِ مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ فَعُشْرُهُ وَصَدَقَتُهُ فِي مِخْلَافِ عَشِيرَتِهِ وَالْمِخْلَافُ الْقَرْيَةُ. وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْوِلَايَةِ إِذْنًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا تَضَمَّنَهَا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِ وِلَايَةٌ فَلَهُ حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَظْفَرَ بِأَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَيَجُوزُ اجْتِهَادُهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالظَّاهِرِ مِنْهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اجْتَهَدَ فِيهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَ بِأَصْلٍ لَازِمٍ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْدَمَ أَصْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ.
فَأَمَّا اجْتِهَادُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ: فَإِنْ كَانَ فِيمَا يُخَافُ فَوَاتُهُ جَازَ اجْتِهَادُهُ فِيهِ وَعَلَيْهِ إِذَا قَدِمَ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَيْهِ لِأَجْلِ السُّؤَالِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ فَوَاتُهُ فَفِي جَوَازِ اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُشَرِّعَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ لِيَعْمَلَ بِمَا كُلِّفَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَيَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ الْبَيْضَاءِ ".
فَعَلَى هَذَا فِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ فِي اجْتِهَادِهِ وَجْهَانِ: